التسميات

‏إظهار الرسائل ذات التسميات نقد تطبيقي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات نقد تطبيقي. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 26 فبراير 2020

التعاضد التأويلي في ديوان ناصية الأنثى لـمحمود مغربي.

التعاضد التأويلي  في ديوان ناصية الأنثى لـمحمود مغربي.

الناقد: وائل النجمي
لا يتناسب التخوف الموجود في مقدمة ديوان الشاعر محمود مغربي والمعنون بـ "ناصية الأنثى" والصادر في هذا العام، مع القيمة الأدبية للشاعر صاحب الديوان، ففي تقديم الأستاذ أحمد المريخي يؤكد على التخوف الذي شعر به مغربي من نشره لأدب الخواطر، والشاعر نفسه يلجأ للتبرير عن هذه الكتابة التي هي خالص

ة للنفس، وكل ذلك التبرير سببه السمعة النقدية لأدب الخواطر، وإن كنت أرى أنه من الواجب على الأديب ألا يلتفت لأحكام مسبقة حول الجنس الأدبي الذي يرغب في الكتابة به، ومهما وصف أدبه بأنه خالصا للنفس، فنحن نعلم تماما أنه سيتلاعب بالكلمات، بل من أجل هذا نقرأ له، فنحن نريد منه أن يحلق بنا في سماء المشاعر لنتعرف معه على خبرة جميلة لذيذة، نختزنها في الوجدان وتبقي أثارها حية في فهم الحياة.
والحقيقة أن شاعرنا اتبع أسلوب المخاتلة منذ البداية، في تسميته لديوانه "بناصية الأنثى"، فالقارئ سيميل لفهم الناصية من ناحية التملك، بينما تقبل في معانيها الطريق والاتجاه أيضا، وحتى في توضيحاته عن ذلك، يترك كلا المعنيين قائمين في نفس القارئ، فهو يقول: بين يديكم الآن "ناصية الأنثى"، وحتما هناااااك نواص أخرى سوف أنشرها تباعا، منها ما للجبل، وما للبحر، وما للصحراء"، ويكمل الشاعر سحره اللذيذ في إذابة الفوارق بين المعاني فيتحدث عن أن هذا الديوان هو حديث مع الأنثى، وليس عن الأنثى كما قد يتوقعه البعض، لكن في اعتقادي هو حديث عما انطبع في وجدان الشاعر من ذكريات وحوارات وتفسيرات مع وعن الأنثى، قد أكون مصيبا في ذلك أو مخطئا، لكني أستدل عليه من إحدى قصائد الديوان، وهي قصيدة "ابق لي مضيئا"، وهي القصيدة التي أرى أن لها معان خاصة ظهرت واضحة جلية، تسهل على القارئ فهم باقي المعاني الواردة في الديوان، وهي القصيدة التي أراها توطئة وجدانية للقصيدة التي تليها "صوتك عبر الهاتف"، رغم كبر الأولى وصغر الثانية.
ففي "ابق لي مضيئا" يعتمد الشاعر على تقنيات التساؤل والالتفات ليغرس في النفس توطئة لشاعرية قصيدته من ناحية، ويهيئ لما سيليها من ناحية أخرى، فهي عنده تبدو أهم، ومقاييس الشعر في الأهمية والقيمة غير المقاييس العادية، والمفارقات تبدأ مع القصيدة نفسها، مع التناقض بين المفاجأة والخصوصية، ثم التأكيد على بلوغ التفاصيل، رغم أن الولوج للتفاصيل تم بغتة، لتكون المحصلة "ألف سنبلة ضحوك"، فهل أراد الشاعر أن يصف السنبلة بالضحك، أم أراد أن يكسب صفات السنبلة من إثمار وعطاء واستمرار وبقاء للضحكة، وهو ما يعاضده العدد ألف، لتظل الضحكة الواحدة ترن وتجلل في نفس الشاعر كأنها ألف سنبلة كل سنبلة تغرس حباتها التي تتفجر منها جيلا جديدا وهكذا، خاصة أن الرقم ألف يقترن في اللغة بالاستمرار.
لكن يبدو أن الشاعر قد انتبه لمباشرة هذا المعني، فيرغب بنا أن نصل لأفق أخر في انتقالات سريعة من الشاعرية الخصبة، فيتحدث عن حواجز وهضاب وألف من الأمواج الثائرة، إنه يتوارى منا بعدما عرفنا أنه قد تم اقتحام تفاصيله بضحكة مثمرة، فأراد ألا يظهر بذلك المظهر اللين المستسلم للمحبة، يقول الشاعر:
لماذا أيها الفرح
تخترق حواجزي
تعتلي الهضاب
تروض ألف موجة ثائرة
لماذا؟
لكن الشاعر ربما كان محقا في استسلامه لهذا الترويض الذي غلب ألف موجة ثائرة حاولت أن تقاوم، فهذا الفرح أضاء عتمته، لكنه في الوقت ذاته حيره في تسجيله في سطوره، وهذه الحيرة هي التي جعلت هذه القصيدة في اعتقادي توطئة وتهيئة للتالية، لأن القصيدتين عند قراءتهما على أنهما مترابطتين تتضح الكثير من المعاني التي يستفيد منها القارئ جدا، فرغم استمرار الأولى في تقديم التشبيهات الجميلة من أرواح شفيفة وطغيان لذيذ، وحنو طازج، ودهشة مسائية، إلا أن المصارحة والمكاشفة تأتي في النهاية واضحة مع التناص الصريح باستعارة البيت الشهير لبشار بن برد:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة               والأذن تعشق قبل العين أحيانا
إذن هذه القصيدة هي تعبير عن مقدار الانفعال بصوت المعشوق، ذلك الانفعال الذي أحس الشاعر أننا لن نستطيع أن نقدر قيمته فأراد أن يوضحه لنا من منظوره، لنشعر به كما يشعر به، وليس من قبيل الصدفة من منظوري أن تكون القصيدة التالية " صوتك عبر الهاتف"، وليس من قبيل الصدفة أيضا أن تكون أصغر في حجمها، لأن مع ربطها بما قبلها ستكون أكبر في تأثيرها، فالقصيدة الثانية توثق الحدث وتقيده، والأولى توثق الأثر والانفعال وتوضحه، وفي الحالتين يتم ذلك من منظور نفس شاعرة عاشقة معطاءة قادرة على توصيف المشاعر والانفعالات بقوة، وهي أهم سمات أدب الخواطر.
لكن اللافت أن ظاهرة التعاضد بين قصيدة وأكثر بحسب ما ألمحت إليه من تعاضد معنوي تتكرر في الديوان، فهناك ترابط بين "حديث البستاني"، "كلمات من كتاب العشق" و"إلى ذات الوجه المستدير"، فبعد أن مهد الشاعر لفكرة أن "المرأة بستان"، لها ظلال وورود وثمار، أفاض في وصف الفل والياسمين، ثم في وصف صاحبة البستان من منظور عباد الشمس، وهكذا في استمرارية جميلة من قيم يغلب عليها الوصف بالخصب والنماء والغرس والجمال.


ورغم أن ما ألمحت إليه من ظاهرة الترابط والتعاضد بين القصائد والمعاني المتضمنة هي قراءة خاصة بي للديوان قد يتفق فيها معي البعض أو يختلف حولها، إلى أنني أتساءل هل ستستمر هذه الظاهرة لتصبح هناك ترابطات بين قصائد في هذا الديوان وقصائد أخرى قادمة في دواوين أخرى، أو في نواص أخرى؟ ذلك ما ننتظر أن نعرفه من الشاعر في الدواوين القادمة، وتبقي مقولة أخيرة، أنه ما من أحد - دون غيره - يمتلك ناصية الأنثى، كما أنه ما من أحد - دون غيره - يمتلك ناصية التأويل، فالقراءة النقدية  مفتوحة مرات ومرات أمام من يرغب لهذا الديوان الرائع.

السبت، 7 يناير 2017

تشكلات الهوية في «بروكلين هايتس» لميرال الطحاوي


 تشكلات الهوية في «بروكلين هايتس» لميرال الطحاوي

الناقد والباحث: وائل النجمي
عند متابعة تناول النقاد لرواية ((بروكلين هايتس)) لميرال الطحاوي[[i]] نرى غياب التحليل لجانب «الوعي الضمني» فيها، بينما كثر التناول للنواحي النسوية، ولجوانب التشكل النصي، ومن منطلق القناعة بأنه في قلب «الرؤية النسوية» المتضمنة جانب يكشف عن معضلات معاش المهاجرين العرب في الغربة، وعن معضلات تربية الأبناء وتأملات حال المهاجرين من عرقيات كثيرة؛ فإنني أعتقد أن القضية الجوهرية التي لم تُــفَضّ بكارتها لدى النقاد في هذا النص هي «الهوية»، وفحص مشكلات نزاع الشرق والغرب، المشكلة الأزلية لثنائية «الأنا» و«الآخر»، ولكن في هذه المرة، يتم النظر لـ «الأنا» وهي تقبع تحت حكم «الآخر» الغربي في محاولة للبحث عن النفس وتأمل مشوار الحياة بعين يخالط بياضها حُمْرَة الغربة، ومرارة عيشة الشتات على أرض غير الوطن، دون أمل أو رغبة في العودة.
ومن الملاحظ أن رواية ((بروكلين هايتس)) مليئة بالشخصيات العديدة، والأنماط العرقية المختلفة من البشر، كيف يمكن أن نقرأ تمفصل الشخصيات بين صيرورتها في الحكي، وبين ثنائية الشخصية الغربية/ في مقابل معادلها الموضوعي من الشخصية العربية؟ وهي التقنية التي اعتمدتها الكاتبة بامتياز في هذا النص، فطوال الرواية، يتم البدء من اللحظة الراهنة في المقام الغربي الذي تسكن فيه ساردة الرواية- «هند»، ثم الانتقال للماضي، للحياة كما كانت في وطنها الأصلي مصر، ولعل هذه المفارقة من البداية الزمكانية بلحظتها الغربية، ثم الارتحال للموطن الأصلي، والتي تكشفت منذ العنونة الأولى للرواية، بتسمية مسمى غربي لرواية عربية، توضح حركة بندولية بين الحاضر الغربي، والماضي العربي، بين التأسيس للحياة في الماضي/ مقابل محاولة الاستمرار في الحياة في الحاضر. وهذه الثنائية هي ما تجعلنا نطمئن لإدراج الرواية ضمن ما يُسمى بـ «روايات المجابهة الحضارية»، أي الرواية التي تضع في حسبانها معضلات العلاقة بين الشرق والغرب.
وهذا النوع من الروايات مر بمراحل ثلاث، على النحو التالي: (1) مرحلة البحث عن «الهوية»، حيث يتناول العمل الأدبي فكرة محاولة اكتشاف طبيعة الـ «نحن» من خلال اكتشاف طبيعة «الآخر»، وقد كانت هذه المرحلة في الروايات التي ظهرت قبل عام 1967م. (2) ثم مرحلة مساءلة «الهوية»، وهي تنتظم فيها الأعمال الخاصة باغتراب البطل عن عالم الآخر وعن عالمه الحضاري-الثقافي، لعدم قدرته على تحقيق انتمائه لأيًّا من الاثنين، فيحدث له اغتراب في النموذجين الحضاريين –الشرقي والغربي. (3) ثم مرحلة فقدان «الهوية»، وهي تقوم على مفهوم الضياع، واستغراق الانسان في تفاصيل الآخر الغربي بما يُفقِده قدرته على معرفة ذاته الحقيقية[[ii]]. وفي حالتنا هنا نحن نتحدث عن رواية تنتمي للمرحلة الثالثة، تتضمن فقدان معرفة الذات الحالية، وتشخيص تهويمها باستعراض ما كان في الماضي، وما أوصلها لحالة «انشطار الهوية» في الوقت الراهن، لكن بمسحة تبدو نسوية، تتبنى منظور المرأة الوحيدة التعيسة التي هجرها زوجها، ثم هجرت هي وطنها ومعها طفلها.
وبندولية المكان ما بين أمريكا/ ومصر، مدعومة ببندولية الأشخاص ما بين خليط الجنسيات في حياة الشخصية الرئيسية: «هند» الآتية في الغرب/ وما يقابلها من شخصيات عربية في الموطن الأصلي في الماضي، هاتان الحركتان بين الأشخاص والأماكن تُجْلِي أمامنا توصيفا لـ«هوية منشطرة» بتوصيف ((أليسون بيلي)) ، وهي الهوية التي تتكون عند «دخلاء الداخل»، بمعنى الذين تم دخولهم في موطن جديد ضمن طبقات هامشية في الواقع الغربي، فـ «هند» في «بروكلين» كانت قريبة من خليط عرقي ليس هو الهوية الأصلية للغرب، وإن وجدت شخصيات غربية في ثنايا سردها فهي تعيش معاناتها الخاصة وفي حالة نفي من الهوية الغربية الأكبر– كـشخصية «تشارلي» مدرب الرقص العجوز صائد النساء، ومن المفترض أن ميزة هذه الهويات الهامشية التي يحملها الدخلاء للموطن الجديد أنها تفترض قبولها للوافدين الجدد ضمن بنيتها، أو على الأقل يجدر ألا يشعر الوافد الجديد وسط هذا الخليط بالرفض وتشوش «هويته» بالقدر الذي ربما كان سيحدث لو اندمج في المجتمع الأصيل[[iii]]، وبالنظر للشخصيات التي تعاملت معها «هند» وخصوصا تقاربها من «إميليا» الروسية، أكثر من تقاربها من «فاطيما» الصومالية و«نزاهات» البوسنية وغيرهن ممن كان يفترض أن تقربهن لها صفات الدين أو العرق أو الهامشية نفسها، يمكننا القول أن المشكلة الأساسية التي كانت تعانيها الساردة في مُقامِها وفي منطلق حكيها لحظة تقديمها السرد هي مشكلة «انشطار هويتها»، وعدم قدرتها على الاندماج مع الدخلاء لهذا الموطن الجديد، فضلا عن عدم قدرتها الاندماج مع الأكثر أصالة من المواطنين الأصليين، إنها في موطن وليس وطن، وتبعات ذلك على السرد، على البنى السردية تجلت في الثنائية ذات السمت الخاص التي سبق ذكرها.
ثنائية مكانية شخصانية، تبدأ الساردة بتوصيف وضعها ومكانها الذي توجد فيه الآن، وبالمناسبة هي طريقة أمريكية أيضا في السرد، وتفتح العنان للاسترجاع، للحظة ماضية في تاريخ حياة كانت على أرض الوطن الأساسي، ودون أن ننس أن السرد يتم من أرض الموطن، فإن العين على الوطن، وهكذا في ثنائية لها تقابلها الخاص، ليس تقابل معارضة، وإنما تقابل استدعاء، فالمقبرة الخضراء للمسيحيين تذكرها بجدتها المسيحية «الضيفة»، و«فلات بوش» تذكرها بشقة زواجها، ويذكرها كوكو بار بوالدها الذي كان يحتسي البيرة، وهكذا، كل مكان غربي يستدعي نظيره العربي في سرد دائري وليس تطوري، سرد يشخص مظاهر قليلة من الأحداث في الموطن الغربي، وتفاصيل عريضة وتحليلات معمقة للحياة التي كانت في الوطن الشرقي.
لكن في اعتقادي الدلالة الخطيرة التي لا يجدر أن تمر دون تقييدها هي موقف الساردة من ابنها، ذلك الابن الذي طوال السرد لم تذكر اسمه العربي المعطى له من قبلها وقبل زوجها، ووقوف الساردة تجاه نموه موقف المشاهد دون محاولة تدخل حقيقية لتذكرته بجذوره العربية، وإنما تشهد تحوله وتجذره في موطنه الأمريكي الجديد كرجل أمريكي، تشاهد ذلك بحيادية ربما، وباندهاش وسلبية مُؤَكَّدَتين، تقول عن ابنها: « إذا رافقها، فإن تضحياته دائما مشروطة بالمطالب. "إذا ذهبت معك ممكن .. ممكن أشتري .. ممكن أعمل ..". كلما كبر صار يذكرها بأبيه أكثر. كلما عاشا معا صارت متأكدة من أن كلا منهما يسير باتجاه معاكس للآخر، وأن عليها أن تتركه في مكان ما، في لحظة ما؛ لأنهما ليسا معا طوال الوقت.» صـ26
لقد قفزت الساردة بسرعة كبيرة حول عمليات التربية، وما كانت تفعله تجاه تشكل الشخصية الناشئة عند ابنها، فهي غالبا لا تحاول مجادلته، ومع الوقت عندما احتاجت لذلك بدأت اللغة تقف عائقا بينهما، بدأ يلوح أن التواصل بينهما ينقطع، تقول: «وبرغم أنها صارت تحذره كل ليلة من العابرين والجيران والغرباء وزملاء المدرسة الأكبر سنا، من الأساتذة وغرف الدرس والحمامات المدرسية، واشتباكات الكرة حين يسقط عليها أجساد كثيرة فوقه. صارت تقول له إنه رجل صغير. وتحاول أن تشرح له مختصرا للرجولة هو ألا يتقرب منك رجل آخر، وألا يلمسك رجل آخر بمحبة، أو عنف. وتصمت غير قادرة على حسم إن كان يفهمها أم لا، فقط يقول لها: "Fine.»صـ112.
ورغم أن النص به دلالة بامتياز على العطب الذي يصيب تشكل «الهوية» بالتحذير من كل شيء محيط في بيئة تتحول جميعها لبيئة معادية للابن والأم معا، إلا أن الدلالة في رد الابن عليها باللفظة الانجليزية Fine وببرود انجليزي ايضا -إن جاز القول، مقارنة ذلك بمخاوفها التي تسكن في أعماق قلبها يفتح ذهننا على مساءلة عدم استكناه الساردة لما يواجهه ابنها في هذا المجتمع؟ لم تذكر لنا الساردة مَنْ اصدقاؤه؟ ماذا يفعل معهم؟ كيف حاله في مدرسته؟ متفوق أم متأخر دراسيا؟ هل تلقنه شيئا عن تاريخ بلاده؟ هل تلقنه شيئا عن تعاليم دينه؟ هل تطمئن عليه أكثر في صداقات مع أعراق غربية أم لاتينية أم عربية؟ لن نجد أبدا اجابة على هذه الأسئلة طوال الرواية، بل سنقف مصدومين تجاه عدم تقديم الساردة أية معلومات اضافية حول رغبة الابن ان يغير اسمه لاسم اجنبي مثل «بيل» صـ177، لن نعرف إن كانت وافقت أو رفضت، ولن نفهم سبب اقتضابها في ذلك رغم اسهابها في ذكرياتها.
هل تحتل النسوية فائضا دلاليا تأويليا يجعلنا نعطي للنص سمة النسوية دون غيرها من القضايا؟ في اعتقادي أن الساردة لم تتخط مرحلة مناهضة التمييز بين الجنسين، خاصة إذا ما اعتمدنا على تمييز ((جياتري سبيفك)) بين مناهضة التمييز ضد المرأة، وبين النسوية، باعتبار أن العمل الذي يقتصر على مجرد تناول ما تتعرض له المرأة من ظلم وقمع هو مناهضة للتمييز ضد المرأة، أما النسوية فهي خطوة ايجابية، هي خطوة انتزاع حقوق المرأة[[iv]]، بتطبيق الأمر ذاته على مجمل الرواية، وبالشكل الصامت الذي اتخذته الشخصيات تجاه مصيرها، وعدم تحولها لأية حالة من حالات الثورية، فإننا – بوعي أو بدون وعي لدى الساردة – إزاء حالة تنزع إلى أن تكون نسوية، لكنها في الحقيقة لا تتخطى مرحلة المناهضة، لم تكن الساردة ثورية بالمعنى الكامل، وإنما مناضلة تقف على ملامح الرفض دون تحقق تغيير جوهري من نتائج مقاومة الساردة للواقع الذي لا يلين أمام هذه المحاولات، وإنما يفرض في النهاية معطيات الهزيمة على «هند» وشخصياتها التي تروي عنها.
لقد وصلت الساردة إلى المرحلة التي ترغب فيها بألا يسألها أحد عن هويتها، لقد قالت أنها تنفي هويتها داخلها صـ137، وشاهدنا حالة صمت تجاه تغير «هوية» الابن، حالة واعية جدا بالمتغيرات التي تحدث وبنتائجها، تتجلي في الوصف للأوضاع وللأحداث، واضح فيها انحياز الساردة إلى المجتمعات المهاجرة حديثا في انتقائها لما تصفه عن باقي الدوائر الاجتماعية الأمريكية الخالصة، لدرجة أنها لم توضح لنا كيف تستطيع هذه الدولة الهجينة من مختلف العرقيات والأجناس، أن توجد حدا أدنى من الاتفاق على هدف ومعيشة وأسلوب حياة يجعلها تحتفظ بمكانتها وهيمنتها على باقي العالم، خصوصا على «الشرق» الذي جاءت منه الساردة، صحيح أن حساسية مرهفة لديها التقطت المشكلات العرقية لكل طائفة، وكيف أنه في قلب بلد الحرية تنزع  كل فئة من الفئات المختلفة: اسبان – مكسيكيين – روس – عرب وغيرهم، إلى أن تُكَوِّن لنفسها حياتها الخاصة، طعامها وشرابها وكل أشيائها الخاصة، لكنها وقفت صامتة تجاه ما يوجهه ابنها للحي العربي من إهانة حول عدم نظافته، ووقوف ((البيرج)) بمفرده باعتباره أقل الأحياء هناك، لم تظهر لذلك غضبا، ولا حاولت تصحيحه، فقط حرصت على أن تستمر في السير والمشي بين كل الأحياء، وأما في الحي العربي، كان الخوف الجوهري أن يكون مصيرها المستقبلي مصير ((ليليت))، تلك السيدة التي أنجبت ((عمر عزام))، والذي يوحي الوصف لتورطه مع جماعات تطرفية ما، وتخشى أن ينته بها الحال جثة هامدة دون أن يتمكن ولدها من التصرف، ليس من خططها العودة، ولا من خططها تغيير الوضع القائم، ولا من خططها اكتساب «هوية» جديدة تضمن لها المزيد من الاندماج والتقبل في الموطن الجديد، وليس من هدفها مناهضة وضع قائم، فقط «انشطار» في هويتها لترضى بأن تعيش في «هوية» هامشية معذبة تأمل في الوصول لسلام نفسي-روحي يحقق لها قدرا أدنى من تقبل كونها منفية ومقصاه ووحيدة، حتى لو كان ذلك على حساب أن تقبل بإمبريالية ناعمة، حتى وإن جارت على نفسها وعلى هويتها في ذلك كثيرا، فتقبل أن تقوم بدور تمثيلي لا تحبه مع ((زياد))، وتترك ((سعيد)) يمارس رغبة المبشر المسيحي والمخلص لها في أمل هدايتها من وجهة نظره.
إننا إزاء منفى وليس موطن، منفى اجباري-اختياري، اجباري في إقامة «هند» رغما عنها وولدها في هذا المكان الغريب، واختياري فيما فرضته على نفسها من محاولات سلام نفسي-روحي على حساب «هويتها» ومجابهتها الحضارية، وإن كانت لم تنجح في الوصول إلى سلامها الداخلي المنشود، إلا أنها تأمل في أن يحقق ذلك ابنها في ظل تكونه المستقبلي في مجتمع غربي يستطيع أن يحقق لنفسه فيه «هوية» ليست منشطرة، قد تكون «هوية دخيلة» أو «هوية هجينة» لكنها ستحقق له حياة أفضل وسلام نفسي-روحي أحسن بكثير من «الهوية المنشطرة» التي تعيش بها وفيها أمه «هند»


====== جزء من الدراسة التي فزت بها بجائزة احسان عبد القدوس للنقد الأدبي 2013 وكانت بعنوان البنية السردية والامبريالية الناعمة



[i] - ميرال الطحاوي: بروكلين هايتس، ط2، ميريت، ،2010م، القاهرة.
[ii]- راجع: د.صلاح السروي: المثاقفة وسؤال الهوية – مساهمة في نظرية الأدب المقارن، دار الكتبي للنشر والتوزيع، ، 2012م، القاهرة، صـ96.
[iii]- راجع: أليسون بيلي: تعيين موضع الهويات المنكثة: نحو رؤية لشخصية البيض العراف- للامتياز، ضمن كتاب: نقض مركزية المركز، تحرير : أوما ناريان وساندرا هاردنغن، ترجمة: د.يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة، عدد 396، يناير 2013، الكويت، صـ188-191. وأمين إلى استبدال هوية منتكثة بهوية منشطرة.
[iv]-   Gayatri Chakravorty Spivak: The Post-Colonial Critic: Interviews, Strategies, Dialogues,  Routledge, London& NewYork, 1990, P.11.

الثلاثاء، 22 أبريل 2014

قراءة في ديوان موسيقي وحيد لبهاء الدين رمضان

قراءة في ديوان موسيقي وحيد لبهاء الدين رمضان

الناقد والباحث: وائل النجمي
تشعر عند قراءتك لديوان ((موسيقي وحيد)) لـبهاء الدين رمضان أنك أمام حالة خاصة من حالات التجربة الشعورية، يخاطب الشاعر فيها كلا من "وعي"، و "لا وعي" القارئ، صانعا من اللغة نسيجا خاصًا، يغزل من خلالها الأفكار التي رغب في تقديمها، ثم يصنع من هذا النسيج لوحة ذات ملمح مؤثر؛ لذا لم يكن عجيبا أن يستحضر الشاعر قصيدة ((مارجوت شاربنرج)) المتأثرة بلوحة ((الصرخة)) للنرويجي ((أدفار مونش))، خاصة وأن الشاعر اعتمد أيضا على مخاطبة العين في التشكل البصري للكتابة – بحسب ما سيجيء – ومن ثم فإننا علينا أن ننتبه إلى أننا أمام حالة فريدة من حالات استخدام التقنيات وتشكيل الصور والصياغات والألفاظ في هذا الديوان الذي يحتاج إلى قراءة متعمقة يخوضها القارئ ليس بعقله فحسب، وإنما بوجدانه أيضا، وسيجد في الديوان المتعة لكليهما.
وإذا ما تعرضنا لبعض هذه الظواهر في المجموعة الأولى من الديوان التي يسميها الشاعر ((ناي في صحراء الوطن))، وهي المكونة من 6 قصائد، في القصيدة الأولى منها المعنونة بـ((همجي)) يقدم صورة مقلوبة لذلك الوطن الذي يكتب عن الشاعر، ذلك الشاعر الذي يلخص حال الفقر والجدب الذي يعيشه، والذي ضاق به ذرعا؛ فأصبح يهدد بإحراق أطفاله الجوعى؛ لذا يشعر الراوي بالوطن وهو يبكي عليه، ولا يجد الشاعر حلا سوى بث حزنه وبكائه للنيل، أما على مستوى التشكيل اللغوي في القصيدة فإن القصيدة تنبني عبر التقابل بين نقيضين، وقد تعمد الشاعر تقديم الكتلة النصية للشعر بزاوية ما بين أعلى وأسفل لتظهر نصين متقابلين بينهما فاصل هو بياض الصفحة، كتوضيح للأحوال المقلوبة التي نعيشها، ونلمس في القصيدة قلة استخدام المحسنات اللفظية، فالموسيقى تنبني عن طريق الجرس الموسيقي الداخلي والسلاسة اللفظية أكثر مما يعتمد على جرس موسيقي خارجي على الغرار التقليدي.
أما في قصيدة ((قاطع طريق)) فإنها تلخيص لعمر بحاله لرجل بلغ الـ 40 عاما، مسيرة حياة كاملة لا تأتي فيها الحياة طيعة، ولا يجد فيها الفرح و السعادة إلا عبر لحظات مسروقة خاطفة، ورغم العدة التي أعدها الشاعر للحياة من سلاح ولثام وحرائق أحيانا؛ إلا أنه رغم كل ذلك يعيش مهزوما فهو يشعر بأنه يعيش وحيدا، معزولا عن الدنيا وبهجتها وصخبها في كهوف سحيقة، إنها حيادة بدون شيء، بدون نساء أو ماء أو ماعز، وإن كانت اشارة الماعز إشارة مجانية القيمة لا توضح المراد من قصد الكاتب، إلا أن المعنى الاجمالي يدور حول اكتشاف أن الحياة التي عاشها الإنسان ما هي إلا ضحية من ضحايا ذلك العالم الذي نحيا فيه.
ولم يفت الشاعر استخدام التشكل البصري لهذه القصيدة في النص الكتابي بما يجعل النص يرسم منحنى يسير في حركة تقوس من أعلى لأسفل والعكس صحيح أيضا، معززا بذلك لدى القارئ شعور اهتزاز القيمة، وفكرة أرجحة الحياة، فمثلما أن الفكرة المسيطرة على القصائد هي فكرة بلوغ سن الأربعين فإن الخط المعطى للمقطع ((أربعون عاما)) قام الشاعر بتشكيله بخط مختلف عن باقي أنواع الخطوط، وأما التشكيل الموسيقي فإنه لا يختلف في التقنية عن القصيدة السابقة من اعتماد الشاعر على الايقاع الداخلي أكثر مما يعتمد على الوزن بالأسلوب التقليدي.
أما القصيدة الثالثة ((ارق)) فهي تحمل مراوغة بين العنوان، وانسحاب الشاعر من القصيدة للنوم تاركا القارئ في مواجهة الأرق، كأنه يطلب من كل فرد أن يواجه مصدر ازعاجه بنفسه، وبرغم أن القصيدة بها بعض الدلالات المتعلقة بالاحالات العاطفية كالحديث عن الغرفة الممتلئة بالدببة، ومعروف أن الدببة هي رمز الهدايا بين المحبين، إلا أن الشاعر سرعان ما راح يغازل مساءه الطازج، وانسحب من القصيدة، والحقيقة أني لا أجد وصف المساء بالطازج مفهوما لي، وتغيب عني الدلالة التي يقصدها الشاعر من جراء ذلك، وإن كان الشاعر نجح في التشكيل الكتابي في ترك أثر الذبذبة التي يحيلنا إليها بين الأرق والنوم في تقطيع القصيدة عندما يكتبها على النحو التالي: تصبح
                                        على
                                                خير
أما في قصيدة ((الغائب)) فإن العنوان يحيلنا إلى مجهول سيحاول العقل أن يفك رموز هذا المجهول، سيحاول أن يعرف من المقصود بالغائب؟ وفي زحمة التساؤل يبهرنا الشاعر ببداية قصيدته حول بحديثه عن النسوة اللاتي هجرن سريره في إشارة للعلاقات الغرامية، لكنها علاقات بدون خصوبة – ويبقى معنى الخصوبة هنا غامضا – هل هي خصوبة الاجاب؟ أم خصوبة الاشباع العاطفي؟ أم خصوبة الحياة بعامة؟ - كلها إحالات مفتوحة في المعنى وتقبلها تشكيلات المعنى في القصيدة، وفي مقابل ذلك يلمح لنا الشاعر بحالة إخصاء رمزية أو حقيقية لكنها لا شك ورائها معاني شعورية أكثر منها حقيقية حول الإنسان في مواجهة الحياة.
ويمضي الشاعر في أسلوبه السلس ساحبا وعي المتلقي تجاه النساء، ثم تجاه الشخصية التي يريد التحدث عنها – ذلك الغائب – الذي ربما لم يولد بعد، أو ربما هي تناص مع فكرة المخلص، فكرة المنقذ، أو أيا كانت الفكرة فإنها كناية عن تلك القيم والأشياء التي أصبحنا نفتقدها في حياتنا، والتي ستظل غائبة عنا رغم شدة اشتياقنا لها.
أما في قصيدة ((انهزام)) فإننا نلاحظ على الشاعر أنه أحيانا يقع في مشكلة مجانية الصورة والتشكيل، فيقدم تعبيرات تستغلق دلالتها على القارئ، فيقف أمامها المتلقي حائرا، ماذا يقصد الشاعر بقوله:
وأجهز صلصالاً
من حمإ  مسنون
مدهشاً كالعادة
لم يبلغ سن الطحلب
فما المقصود بالحمأ المسنون؟ وإذا اعتبرناها اشارة للإنسان كتناص مع الأية الكريمة، فكيف نفهم تركيب مثل ((سن الطحلب))، ما الاشارة أو العلامة الدالة هنا؟ ما المقصود بالضبط؟ هل يخدم هذا التشكيل المعنى؟ أسئلة مفتوحة لا نجد لها إجابة قاطعة لأن التشكيل الدلالي للمعنى غير قابل للقبض والإمساك به.
أما في قصيدة ((انشطار)) فإن حالة من التناقض التي تعيشها البشرية جميعها هي المهيمنة على النص، حالة لا تناسب على الإطلاق ما وصلت إليه البشرية من وعي وتفكير، مما يجعل سؤالا مثل: كيف نحن معشر البشر بكل ما وصلنا إليه من معرفة نقبل بما يحدث ونراه ونشاهده في أرض الواقع؟ كيف نقبل بالسرقة والنهب والسلب في الحياة؟ كيف ما زلنا لم نحسم هذا الصراع بين الخير والشر؟ أين العقل من هذا اللامعقول المهيمن على الحياة البشرية؟ وكأن الشاعر يتمنى لو أنه تمكن من القضاء على هذا النصف غير الخير وغير المعقول ليقسمه إربا إربا، أو كأنه يريد أن يقسم النصف الخير في كل البشر ليجل منه نصفا أخر يحل محل النصف الشرير، وهو حلم بعيد المنال.
وعند الانتقال للمجموعة الثانية من مجموعة قصائد الديوان، والتي تحمل عنوان: ((القصائد الأطلسية))، فإن القصيدة المعنونة بـ((قصائد الفجيعية)) ))، يقول فيها الشاعر:
الفجيعة في القلب
هي نفسها
الغابات في فصل الصيف ....
والصعيد في الصيف ...
تفتت العظام
وتتلبس الساعات
يعرب إذن الشاعر عن ((الفجعية))، عن الوجع، ذلك ما يتغنى به هنا، فهو يشعر بِحَرِّ الغابات في فصل الصيف، أو قل الصعيد هو غابات الصيف الحار، سواء بشجره ونباتاته المزدهرة، أو بكونه مكانا نائيا، بعيد عن العمران البشري، مليء بالمشكلات، وذلك ما يتأكد من استخدام الشاعر ألفاظ مثل ((تفتت العظام، وتلبس الساعات))، إذن نحن بإزاء تلاعب دلالي، وهو ما يحقق للديوان شاعريته، عن طريق استخدام صورة مزدوجة، يتم في البدء استخدامها لغرض، ثم سحب دلالتها بعدما تشكلت لدى القارئ للبناء عليها بدلالة أخرى، وبينما نشعر بالتحليق الشاعري عن فجيعة الوجدان، وعن مشكلة الذات، فإذا بالشاعر في المقطع التالي يقول:
مثل غرناطة
كان حلما
فانهار
ما أسهل القول بأن الشاعر يُحدث حالة من التداخل بين الهم القومي، والهم الوجداني، خاصة أن استحضار ((غرناطة)) له ما له من مفاهيم خاصة به في الوجدان العربي، وهذه الحالة تتصاعد مع المضي في مجموعة القصائد فما يلبث أن يحيلنا الشاعر لوجع العشق والهجر، حتى يسحبنا لوجع الوطن والقومية في داخل القصيدة الواحدة مرات ومرات، يقول:
قالت إني طفلها
فهل تأكل الأم أولادها
وهنا يمكن لنا أن نحمل معنى الأم ما نشاء، فنراها الأم الوطن، أو الأم المعشوقة، أو أيا ما نشاء، كما أننا أيضا يمكن أن نحمل معنى أنه طفلها ما نشاء من معاني الغزل والهيام والغرام، ومعاني الوطنية في الوقت نفسه، فلما التداخل في الصورة؟ أو قل إن هذا التداخل هو ما يصنع جمال الصورة هنا، ومما يصنع جمال الصورة أيضا، ما يفعله الشاعر من ربط للقصيدة بالقصيدة التي تليها عندما يقول:
 يأيها الأبيض المتوسط
خذ دموعي إليها
لتتيقن أني انتهيت
ثم تأتي القصيدة التالية: ((الأطلسية))، وكأنه مهد بما انته إليه من حديثه عن البحر المتوسط بالمرور إلى المحيط الأطلسي، وعندما سنقرأ قصيدة الأطلسية سنعلم أن المساحة التي يتحدث عنها كبيرة جدا، تشمل كل البلدان العربية الواقعة على البحر الأبيض، إذن الشاعر حرص على ترتيب قصائده ترتيبا دلاليا يتداخل في التفسير والتلقي لدى القارئ، ليشعر القارئ وكأنه يقرأ مجموعة سردية من الفصول الممهدة لبعضها، لكننا هنا بإزاء سرد شعري ذاتي.
وأما قصيدة ((الأطلسية)) فهي قصيدة تبدأ بمعاني يتذبذب فيها الوصف بين معاني الأنثى، ومعاني الوطن، عندما يقول الشاعر:
والشَمْسِ ذَاتِ الوجْنَتينِ ..
والأعنابِ والرمانِ …
إنها طالعةٌ منْ دمي
ومَلِكَةُ قلبي
تنبت كلَّ المسافات …
أرضَ المسرةِ …
بالشوقِ
تدخلُ في زمان الحدائق
مزدانة بالورود البهية
والصباحات الفتية
والليالي العتية
من يقصد الشاعر بالبنت الأطلسية في ظل هذا الوصف؟ الإشارة واضحة إلى كينونة وطنية، لكن مصر ليست بدول أطلسية، كما أن الشاعر يشير إلى المغرب وهي دولة أطلسية فماذا يقصد الشاعر بالضبط، يقول:
أنا نيلك الساكن في وديان المغرب
والطالع من مصر
فما هدأ وما قرْ
أيتها البنت الأطلسية
أين منك المفرْ
إذن المعنى المركب لمجمل ما يقوله الشاعر هو الوطن العربي بمجمله، البنت الأطلسية التي يهيم بها شاعرنا بحسب ما يمكن أن نفهم من سياقه هي: القومية العربية، هي الروح الموحدة بين المشكلات التي تواجهنا جميعا كعرب في مواجهة أقدارنا ومشكلاتنا، وهي الروح التي تسكنا تماما كعشق فتاة يضحى عاشقها من أجلها بروحه فداء لها/ فداء للوطن.
وإذا ما انتقلنا لقصيدة ((الضجيج)) فإننا بإزاء ملحمة من نوع إنساني مختلف حول الأسئلة التي تُثار في النفس البشرية منذ الخليقة وإلى الآن حول صراع الخير والشر، لكن في هذه المرة يقدمه الشاعر بصورة مركبة، إنه يرسم لوحة تتشكل من  صور شعورية واحالات لغوية متراكبة، انظر مثلا لقوله:
هم قادرونَ
       على الضجيجِ
.. وهجر كل حناجر الشرفاء
لكن ..
ربما ..
ببساطة البلهاءِ
حين استنكروا أصواتهم
وتناثرت كل الشظايا حولهم
لم يكتفوا بضجيجهم
فاسترسلوا
ومضوا إلىّْ
………
تُعد هذه القصيدة مثالا على عدة تقنيات شعرية استخدمها المؤلف في تحقيق شاعرية ديوانه، فأولا التلاعب بضمائر المخاطبة، وتوجيه القارئ عبر الضمير ((هم)) ليفكر المتلقي بمن المقصود بهم، وهل ((هم)) غير ((نحن))، أو غير ((أنا القارئ)) ونحص ((هو)) الشاعر، ثم سرعان ما يموقع الشاعر ((هم)) بأنهم المهاجرين لكل حناجر الشرفاء، أنها تلك الأسماء التي لا ترد على لسان الشرفاء، وفي مخاتلة لا نعرف فيها من الذي يقوم بفعل الأحداث ولاحظ معي أيضا الانحناء الذي يتخذه الخط في شبه قوس، فالكاتب يتلاعب أيضا بالشكل الكتابي للكلمات، ليؤلف نصا يعتمد في معناه على التشكل السيميائي للعلامات اللغوية المكونة للنص، وينهي هذه المقطوعة بعدما حبسنا أنفسنا وتهيأنا لقبول معنى يحسم لنا الصراع بين ((هم)) الشرفاء، و((هم)) غير الشرفاء، لكي نعرف في الأخر أنهم مضوا إلى المجهول، فالمؤلف وضع ثلاثة أسطر كاملة من النقاط، تتماشي في التشكل النصي للرسم الكتابي بنصف القوس المتجه ناحية اليسار، وكأننا أمام مشهد مسرحي ينسحب منه الممثلين تاركين خشبة المسرح فارغة أمام جميع المشاهدين، وكأنه يضع جميع المشاهدين/القراء في مواجهة أنفسهم.
ثم تبدأ الكتابة من جديد، ولكنها تبدأ بضمير المتكلم، فبعد الحيرة التي وضعنا فيها الشاعر حول المقصود بكلامه، ينقلنا لضمير المتكلم، وإذا ما أخذنا في الحسبان أن كل قارئ سيقرأ النص سيمضي ضمير المتكلم إليه، فإن الشاعر هنا يجعل من نصه نسيجا يخاطب به روح كل قارئ، ليسحبه من التفكير فيما حوله، إلى التفكير فيما في داخله، في الذات البشرية القارئة للموضوع ذاته، يقول الشاعر:
ماذا عليَّ الآن .. ؟!
هل
أجتاز خيبتهم
كروح للشهيد
حكاية للمستباحِ
من الأمورِ
وأرسم الكورال
         حنجرة
لكنه دائما ما يجعلنا عند هذه الحافة من المعني الذي تشعر بأنك ستمسكه وتقبض عليه، ثم فجأة يتسرب المعنى منفلتا من بين يديك، ليصبح القارئ في حالة أشبه بحالة الوعي واللاوعي، وهي ((السيرالية)) ذاتها التي أشار لها الكاتب في موضع أخر، والتي تعني تمثيل العالم بمخاطبة لا شعور المتلقي، محاولة التعبير عن حالة اللاوعي التي قد يتعرض لها الإنسان في حياته، ويساعد على تأكيد ذلك مجموعة الأسئلة التي سيطلقها القارئ مندهشا: من الشهيد؟ من المستباح؟ وكيف تصبح حنجرة واحدة من الصوت كورال كاملا من الإنشاد والتغني؟ وما إن تمضي حتى تجد الشاعر يقول:
 لمخمور يصارع قوة الجاموس
                   والأبقارِ
                   والأسرابِ
                  وامرأةٍ
                  تنام على سرير دافئ
                 في ليلة شتوية

ومن جديد يتلاعب بنا المؤلف بالشكل السيميائي للعلامة النصية، فبعدما رسم قوسا في المرحلة الأولى، يعود هذه المرة ويرسم سطرا كاملا مستقيما، ثم ينتقل بنا في مفردات يعدد فيها القوى التي يصارعها المخمور من جاموس وأبقار وأسراب وامرأة، فيضعها في أقصى اليسار أسفل السطر المكتمل تاركا مساحة من الفراغ على يمين النص، فهل يشكل ذلك معنى مواز للمعنى النصي بمطالبة القارئ بالبحث في أعماقه حول الأشياء التي يصارعها وتتصارع معه؟ أو حول ما إذا كان القارئ في حياته مخمورا أم واعيا بصراعاته؟ أبدا لن تمسك بإجابة في ثنايا النص، لكن تبقي قدرة النص على توليد مثل هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة شاهدة على مقدار ما يحتويه من تقنيات حققت للديوان شاعريته، سواء كانت تقنيات التنغيم الصوتي، والتقديم والتأخير والحذف والوصل، أو كانت تقنيات على مستوى الخطاب، بتلاعب الشاعر في ضمائر المخاطبة، فاستغلها في التأثير على القارئ الذي سيحاول في عملية تأويل النص أن يحلل من يقصد الشاعر بالضبط بـ ((هم/نحن))، وعبر التشكيل البصري للكتلة النصية، كما استغل الشاعر انزياح الدلالة بين المحبوبة/الوطن/ الواقع الصعب الذي نعيشه، فعل كل هذا في إطار من التغني والعزف الذي لا شك أرهق أوتار آلته الموسيقية، فخانته في ترتيب النغمات في بعض الأحيان، فلم يكن من المبرر تقديم الأبقار والجاموس على المرأة؟ ولم يكن من المبرر غياب المعنى المحال إليه في تلبس الساعات التي لا نعرف بالضبط فيما تتلبس الساعات، ولا غياب المنطق في جعل حنجرة كاملة هي جوقة كاملة، نعم عزف الشاعر سيمفونيته بمفرده في ديوانه، لكن هل نجح في أن يؤدي كل أدوار الفرقة الموجودة في مخيلته، أم أن بعض الأدوار انزاحت عن موقعها الطبيعي؟ أسئلة أتركها مفتوحة لتلقي القارئ.


تجريب الكتابة، والتشكل السردي قراءة في مجموعة: طعم البوسة: لمحمد على ابراهيم

تجريب الكتابة، والتشكل السردي قراءة في مجموعة: طعم البوسة: لمحمد على ابراهيم

الناقد: وائل النجمي
يمكن تقسيم مجموعة قصص «طعم البوسة» إلى قسمين، الأول تجريبي قام فيه الكاتب بمحاولة استنفاد طاقته في التجريب وفي ايجاد شكل جديد للكتابة، وقسم أخر أشبه ببوح السر وهمس الخاطر الذي يقوم فيه الكاتب بتقديم مشاعره وانفعالاته بالاعتماد على استعادة الذكريات، وتقديم الأحداث القديمة بوصفها احداث جديدة تحدث الأن، ولعلني لا أبالغ عندما اقول ان الثقل الأساسي للتجريب في المجموعة في أقصوصة «طعم البوسة» - والتي تستمد المجموعة منها اسمها - سواء في التشكيل الفضائي على ورقة الكتابة، أو في تقديم الأحداث والشخصيات، وأيضا من حيث اللغة، يبدأ الراوي استهلال الأقصوصة بقوله: «شفتاها؛ يا الجمر المشتعل، يا أحمر قد علاها فدفن أسرارها .. شفتاها طريتان، وبريئتان وتنفجران فجورا.
شفتاي؛ يا فقرا توحد والرغبة، انهار من الجوع والعشق والحرمان والأحلام ..»
إن البداية بالتقابل بين شفتيها، وشفتيه، والبدء بشفتيها قبل شفتيه، كل تلك المفارقات تجعلنا ندخل في جو الأقصوصة الممهد لنا بأنه مقارنة بين «هي»: الأنوثة/ «هو» الذكورة، إلا أننا سرعان ما يتم سحبنا من هذا الجو الكوني حول الأنوثة والذكورة، ليتم وضعنا في إطار حفل زفاف ممتلئ بالزغاريد وبالبطون المتخمة بعشاء الزفاف، إلا أن التوظيف اللغوي لجملة: «رعشة ما تظللنا و(ربع الخمرة) بدأ يضيع في بحر شفتيها (...)» لم يكن مناسبا لهذه الملحمة الكونية التي يضعنا في ظلالها الراوي.
لكننا نتلق "تغريبا" أخر مع إعلان الراوي: «كان "جاك دوسون" يتأهب للدخول في جنة شفتي "روز" وهي ذاهبة إلى جحيم شفتيه.» ليجعلنا ذلك نتساءل: من المقصود بهذه المسميات؟ هل هما من ذُكِرَا من قبل؟ وهذه النقلة بين ضمير الراوي «أنا» و «هم» ثم استخدام لغة القياس بالقبل: «وذهبت في سرعة إلى مقعد يبعد عنها بمقدار عشرين قبلة» ثم ايقاف السرد لتقديم اعلان استهلالي وفي داخل مربع نصي على النحو التالي:




.....................
ولا يقصد هنا الاساءة إلى الرأسماليين أو تمجيد الاشتراكيين؛ لم تذكر كتب السماء أن الليبرالي أو الماركسي سيذهب أحدهما أو كلامها إلى الجحيم.
مع خالص تحياتي لأمن الدولة.
المرسل/ أنا الطيب

 
 



 يبذل هنا الكاتب أقصى طاقات التجريب من أجل تقديم نص متفلت من ظلمة الواقع وسطوته، وفي الوقت نفسه محمل برسالة الحب والرؤية الكونية، دون أن ينس انتقاد الواقع المرير، وهي رؤية اثقلت كاهل الكتابة، وربما لو لم يتم ذكر التحية لأمن الدولة في النص التوضيحي لكان أفضل، وأيضا تلقيب الراوي/الكاتب لنفسه بأنه الطيب ففي ذلك مخاتلة كبيرة، إن ما يريد أن يرسله الراوي إلى المتلقي عليه أن يتركه مشفرا فمحاولات فك الشفرة من قبل الراوي المتضمن في النص قد تؤدي إلى وصول رسالة غير المقصودة على الإطلاق، خاصة عندما يعود الراوي من جديد في رسالة أخرى ليلقب نفسه بأنا/الشرير.
مع العودة للنص السردي بعد النص المقتطع من السرد سنكتشف أنه يتم تحويلنا لمجرى اخر بعيد عن ما تم التهيئة إليه، وفضلا عن استخدام لغة تحلق في سماء الشاعرية دون مبرر سردي، إلا أننا نعود لنقطة البداية – استرجاع غير منطقي – لما قبل لحظة قبلة الزفاف إلى يوم التقدم والعشرة ألاف جنيه شبكة.
وما إن نمض متحسسين مقدار مخاتلة النص حتى نُفاجأ بتوقف السرد مرة ثانية لتقديم نص اعلاني مرة أخرى، نص يتحدث عن التعرية وما المانع من التعرية، ثم الخلط بين التعرية وقادة المرحلة، والتحدث عن المرسل: أنا/الشرير، وما إن نعود للسرد حتى نجد حوار حول غرق السفينة، إن ظاهرة اختيار أحد الأعمال السينمائية وجعلها في خلفية السرد – حيث المقصود هنا فيلم تيتانيك وقصة الحب التي صورت سينمائيا في الفيلم الشهير – مع ملاحظة أن الكاتب هنا يصنع مفارقة بين هذا الحب السينمائي، والحب في الواقع المصري، فالأول غرق في مواجهة البحر مع بقاء الحب خالصا في القلوب، والثاني: يغرق في مواجهة الشبكة والمهر والطلبات، لكن عين الكاتب كانت مفتوحة أكثر على الخلفية السينمائية بشكل أكبر عما فعله من توصيف للواقع الذي يتحدث عنه ويعيش فيه، لكنه لم ينس في زحمة هذا الحديث الإشارة إلى الواقع السياسي، كل هذه الطاقة التجريبية في قصة قصيرة، مثقلة بلغة شاعرة محلقة، لا أنكر أن هذا الخليط - الشاعري الرومانسي الواقعي السياسي - جعل المتلقي في حالة اشبه بحالة الحلم/اليقظة وكأننا نسمع موسيقى ساحرة غير قادرين على الفكاك منها، لكنها في الوقت ذاته تترك بداخلنا غموضا غريبا ومشاعر متناقضة.
ومن ناحية أخرى فإنه - في  اعتقادي - أن خير ممثل في المجموعة للقسم الآخر: قسم البوح بالسر والهمس واستعادة الذكريات هو أقصوصة: «هذيان حار جدا»، والتي تبدأ بالمقطع التالي: «العتبة قزاز والسلم نايلو في نايلو"، اسمع قلبي وشوف دقاته . المدمس .. النهاردة عيد يعني سيما وفتة .."
لا أتذكر سوى بعض الأغاني الرائعة و الرديئة و..
"هو كل يوم فول .. تأكل وتنكر .. ناسي الفتة واللحمة اللي سفحتهم في العيد .. جاتك بلوة واد مفجوع زي أبوك إلهي لا يرجعه .."
بهذه الاستعادة من الذاكرة يقدم لنا الراوي الأقصوصة، وواضح أن الذاكرة الفنية من سينما وراديو تحتل مساحة كبيرة في مجمل أعمال «محمد علي إبراهيم»، إلا أنه بحيلته الفنية نجح في أن يحول طاقة التأويل لمعنى أخر: «واد مفجوع زي أبوك إلهي لا يرجعه»، هنا نلمس التلاعب السردي الذي يقدم لنا الشيء، ثم سرعان ما يحيلنا لمفهوم أخر ورؤية أخرى، وطوال المضي في قراء العمل تشعر أن الرؤية والانفعال تتغير مرات ومرات عبر كلمة أو كلمات تقلب المعنى تماما، مما يعني أن مستوى التجريب السردي والتفجير اللغوي حاضر وموجود في المستوى الثاني من القصص لكنني اعتقد انه بصورة أقل من سابقه، أو على الأقل بصورة أكثر عقلانية ومنطقية.
وفي تكثيف سردي رائع يختصر الراوي لحظات وفاة والده وزواج أمه من رجل أخر، ويمضي من ذلك سريعا إلى مشهد السينما – مرة أخرى – ليتوقف أمام مشهد «زبيدة ثروت» في حضن «عبد الحليم حافظ»، وبعكس ما كان الحال مع فيلم تيتانك لا يذكر الراوي الأسماء الخاصة بالشخصيات في العمل الدرامي وإنما يذكر أسماء الممثلين أنفسهم، ثم يقفز أيضا سريعا لقلق أمه عندما تقوم بغسل ملابسه في إشارة واضحة للاحتلام.
اعجبني وصفه لجدته بأنها ذات العشرين ربيعا والستين خريفا، مقارنة رائعة بين السن وشباب القلب، ثم مقارنة تتلو ذلك من الجدة بين الأب وزوج الأم، وتقرير زيارة الابن لمعرض زوج الأب، وفي الخلفية نجد الأغاني تأتي من جديد: السح ادح امبو .. ادي الواد لأبوه، ومفارقة دالة في اختيار اسم كوميدي لزوج الأم والذي سماه الراوي بـ «ميمي هريدي بن عكرمة»، لتبدأ عملية المساومة من زوج الأم تجاه الابن على أمل أن يتخلص الابن من القيم والاخلاقيات التي زرعها في داخله أبوه.
ثم وفي حالة من الفنتازيا يدخل الراوي في غيبوبة ليرى والده وهو متقلد سيفه وفي نغمة تأنيب للابن الذي تخل عن القيم التي أورثها إياه يخاطبه مخيرا اياه حول السيف المشهر الذي يتقلده الوالد، ويسأل الابن هل يلزمه هذا السيف أم لا؟ وبينما الاب في هذه الجدية الصارمة يحلق طيف «زبيدة ثروت» شاغلا مخيلة الابن، مما يدلل بوضوح على عدم قدرة الابن على حسم الصراع الداخلي الذي يواجهه، وقيامه بالهروب النفسي لاتجاه اخر يشعر فيه فقط بذكورته وبما يمكن أن يشعر فيه بالسعادة دون أن يقوم بما هو مطلوب منه من جهد مجتمعي.
سرعان أيضا ما يقوم الكاتب بعمل نقلة أخرى للمشهد بإدخال العسكر وهم يطاردونه بعدما قرر الرحيل من يد الأطباء، رحيل يتخذ طابع القيام والتحدي للواقع، لكننا سرعان ما نكتشف أنه رحيل للعالم الأخر، رحيل للموت، إنه الانسحاب والانهزام  إنه الرحيل نهائيا من الحياة، ليجد الراوي كلا من: أبيه، وعبد الحليم، وزبيدة ثروت في انتظاره، ومع التلاعب بسيميائية الكتابة يقطع كلمة "ينتظرونني" وكأنها تخرج مع أنفاس الراوي الأخيرة.

ما بين النوعين من الحكي على أن أشير لنوع ثالث، نوع يتخذ لنفسه طابع الملحمة لكنها ملحمة سريعة مكثفة موجزة، من ذلك أقصوصة «ما قاله الولد لا»، وتقسيمها لبعض المقاطع التي تؤكد على هرب الراوي إلى مخزن الهمس والاحساس والمشاعر، إنها أقرب إلى الرؤية الفكرية حول الحياة، لكنها رؤية فكرية مقدمة في أسلوب سردي رائع، يتخللها بعض الأبيات الشعرية التي تؤكد على رؤية محددة، وسمة الكتابة التجريب وتفجير الدلالات بحيث تولد معاني مختلطة، يتلقاها القارئ معا شاعرا بأنه ولج لعالم الكاتب وأنه أسير هذه الانفعالات دون قدرة على الهرب منها، ودون القدرة على تشكيل رؤية محددة واضحة، ليجد نفسه مضطرا لتشكيل رؤيته الخاصة أيضا، الرؤية التي قد تكون متناقضة لكنها في النهاية هي نظرتنا للحياة، أليست الحياة هي ذلك التناقض الذي نقبل به، فنغمض أعيننا عن الكثير من أجل أن نحيا فيها.

الجمعة، 11 أبريل 2014

المضحكات المبكيات ... مفارقة عبد السلام ابراهيم في كوميديا الموتى

المضحكات المبكيات ... مفارقة عبد السلام ابراهيم في كوميديا الموتى

الناقد / وائل النجمي
"التشويق" و"الجاذبية" من علامات النجاح المهمة في أي عمل سردي، فهما يدفعان القارئ إلى إكمال عملية القراءة، ويوجهان إلى انفتاح أفق التلقي وفهم أبعاد التأويل، ولا شك أن هذه العلامة موجودة بقوة في مجموعة «كوميديا الموتى» لـ (عبد السلام ابراهيم) –صادرة عن النشر الاقليمي فرع الأقصر 2010م، تلك المجموعة التي تتكون من 20 قصة تتراوح ما بين الأقصوصة، والقصة القصيرة، وقد بدأ (ابراهيم) عملية التشويق مبكرا مع القارئ، منذ العنوان، فهل من كوميديا في الموت؟ هل يمكن تخيل أن هذا الحدث الذي تخاف منه البشرية جميعها به من المفارقات ما قد يؤدي لصنع بسمة ما؟ أم أن الأمر هو من المضحكات التي هي في حقيقة الأمر مبكيات؟ يستبين عند محاولة الاجابة عن هذا السؤال أن العنوان مستوحى من القصة العاشرة في المجموعة، أي القصة التي تقع في القلب من بين باقي القصص، وكأن هذا الاختيار بهذه العنونة، وهذا الترتيب يؤكد على نوع خاص من الكوميديا موجود في قلب الحياة، وفي قلب الواقع دون أن نشعر به، إذن علينا أن نبدأ من قلب المجموعة حتى نستبين دلالة العنونة ثم نعود من جديد لباقي القصص. 
تتناول قصة «كوميديا الموتى» جدلية الموت والحياة، وتنظر بوجهة نظر مغايرة لأولئك الذين تجعلهم ظروفهم موتى في الحياة! إنها صرخة في وجه التعاسة الإنسانية، والظلم الإنساني، وتخلي الإنسان عن أخيه الإنسان في مواجهة متطلبات الحياة، ليصبح الفقير في مصر لا يملك إلا أملا واحدا بعيدا، هو أن تُسقِط السماء عليه ذهبا، أو يرحل من هذه الدنيا حتى يتخلص من مشكلاته، إنها تتحدث عن ذلك الأب الذي ملأ أبناءه باليقين في مواجهة الحياة، ثم مات دون أن يملأ بطنه، دون أن يشبع يوما واحدا، بل دون أن يكون هناك كفن متوفر له يوم أن جاءته المنية، وها هو اليوم استطاع الابن أن يوفر كفنا لوالده، فيعود له رغم صعوبة المهمة - تلك المهمة التي فرضت الدنيا على هؤلاء البائسين أن يكون مصدر معيشتهم الحاد الموتى – يعود الابن ليواري عظام أبيه في الكفن، فهل تستحق هذه الدنيا التي جميعنا فيها مصيرنا للدود يتغذى علينا، أن يكون بيننا كل هذا الفقر، أو هل نملك لمن يبخلون بأموالهم عن الاسهام في توفير الحاجات الإنسانية إلا أن نسخر منهم وأن نضحك من تصرفاتهم، إنها كوميديا سوداء عجيبة.
وما يحقق فاعلية هذه الأقصوصة الدمج بين الوصف، وبين الرسالة المتضمنة في طريقة سردها، ولعل من أول الأشياء التي تتبدى لنا في خصوصية سرد (عبد السلام إبراهيم) طريقته الخاصة في الوصف، في تقديم الدفقة الشعورية عبر استبطان المعنى الكامن في أعماق الشخصية من خلال الواقع ومعطياته من حول الشخصية في مسيرتها، فالمكان، أو إن شئت الدقة وصف المكان وتوظيفه يحتلان أهمية كبرى في سردية (عبد السلام إبراهيم)، خذ على ذلك المثال التالي، يقول الراوي:
 «متأبطا قطعة قماش بيضاء صعد حائط الجبانة المرتفع. هبط ثم مشى ناظرا تحت قدميه يتفادى القبور المبنى فوقها هرم والمكتوب عليها، والمطلية بألوان مختلفة، والقبور التي تساوت بالأرض والمحفورة بمخالب الكلام والمهدمة، بينما كان يحدق في تلك التي ليست عليها علامات أو طوب مرصوص، كادت قدمه أن تنزلق في احداها، بشهقة عالية سحبها.» صـ28
فللوهلة الأولى قد تشعر بأن الوصف المسهب لأنواع القبور ما بين المهدم والهرم والمرتفع والممحو، هو إطالة للقصة التي تقوم على قصر معطياتها، لكن ربط معطيات الوصف بباقي القصة، مع الفكرة الأساسية المطروحة حول مصير وحياة بني البشر، فإن تعددية أنواع القبور هنا تلائم تماما تعددية الناس وطبقاتهم، وكأن المعنى الضمني الكامن: كل الناس بمختلف انواعهم مصيرهم تحت التراب، وإن تعددت أشكال القبور التي ستُتَخذ لهم. لكن هذا لا يعني أنه في أماكن أخرى لم ينزلق الكاتب لهواية الوصف على حساب الموضوع نفسه بحسب ما سيجيئ، لكن حتى هذا الوقت فلنمض تجاه تقنية ثانية تكشف عن نفسها وستتكرر باطراد في المجموعة – باستثناء أقصوصتين هما: التوهج، وأبو خليفة – وهذه التقنية هي الراوي الخارجي، الراوي بضمير الغائب، الكلي المعرفة، ذلك الراوي الذي يقدم لنا جميع التفاصيل، الحالية والماضية، الحاضرة والغائبة، ربما كان هدف هذه التقنية محاولة قول الكثير، واختصار الكثير في مساحات سردية صغيرة، لكن لا شك أن عيوبها ما تورط فيه أحيانا الكاتب من زيادة في الوصف، وتكرارية في تقديم معلومات يمكن بسهولة اقتطاعها من السياق السردي دون أن تؤثر على مسيرة ورسالة القصة.
مثال ذلك، المقطع التالي الذي يُعد نموذجا للراوي الغائب كلي المعرفة، وللوقوع في أسر الوصف، من أقصوصة «الخط المستقيم»:
«استدار حميد قادما من ناحية الجبانة القديمة محاولا اختراق المارة عند المدخل الجنوبي لشارع السوق، هدأ من سرعته ومرق بجانب الحائط ممسكا العصا من المنتصف، لف حول نفسه عدة مرات وعاد إلى بداية المدخل الجنوبي لشارع السوق، توقف لاهثا وكشف بعينية الشارع الممتد غير عابئ بالمارة المتناثرين، أحكم قبضته على العصا بيمينه، من نقطة بعد سور الجامع حددها هو، وعند زمن ما للأمام خطت قدماه مسرعتان، وللأمام وللخلف حرك يديه مارقا في منتصف الشارع، تزيد سرعته كلما خطا بقدميه الناشفتين ناهبا الشارع وعند القهوة كان الشارع مسدودا بالباعة، وقف هادرا يتطاير سائل من فمه وأنفه، جلس مكانه ممسكا العصا من المنتصف يصيح وهو مغمض العينين: - تششه» صـ34
لقد طال الوصف هنا إلى درجة ربما ليس مكانها الأقصوصة القصيرة، وإنما مكانها الرواية، بل في الرواية نفسها كنا سنعيب هذا المقطع الذي يقدم وصفا أكثر مما يحتاجه السرد، فزمن السرد – زمن الصيغة بتعبير جيرار جينيت – أكثر بطئا من زمن الواقع، فما يأخذه القارئ من وقت في قراءة المقطع أكثر مما يحدث في الواقع من حدث – ونقصد بالواقع هنا واقع القصة، وطبعا من حق الراوي أن يختار لحظة ما ليكبرها ويجعلها بألف لحظة، ولكن شريطة أن يكون هذا متناسقا مع منطق السرد ذاته، شريطة أن يكون الدور التأويلي والدور الذي يتم تقديمه في تشفير وفك الشفرة يتأثر بهذا التكبير، لكنني أعتقد أنه في أماكن عديدة من المنطق السردي، كانت تحدث تكبيرات وصفية متداخلة مع تقاطعات الراوي دون أن يكون لها مقابل أو تأثير في التأويل، والأمثلة عديدة في المجموعة.
والظاهرة التي تستحق الوقوف أمامها هو محاولة المجموعة استبطان النفس الانسانية، محاولة تقديم أطروحة لفهم الانسان، لكنها اطروحة تنطلق من المنتصف، ولا نعرف بالضبط إلى أين يمكن أن تصل بنا، اهتمت بقضايا الفقر والجوع والحيرة والنفاق، وتعددت رؤاها وتنوعت، إلا أنها تصل ذروتها وروعتها – من منظوري – عندما تحاول أن تستبطن جوانب القوى والضعف في الذات البشرية، ففي أقصوصة «الصورة خارج البرواز» حديث عن تلك الأقنعة التي نضعها جميعا، بقدر أو بآخر، والمقابل الرمزي بين سقوط صورة من بروزاها، وانكشاف بطل القصة أمام زميله، ورغبة زميله في مواجهته،.
بينما في أقصوصة «موت كومبارس» فالراوي يطرح معضلة العلاقة الأزلية بين صراع الفرد مع المجتمع! صراع البحث حول مَن هم الأبطال؟ ومن الـ «كومبارس» في الحياة؟ هل الأمر بالاختيار أم أن الأدوار وزعت وانتهت؟ ماذا تفعل إن اكتشفت مع قرب انتهاء حياتك أنك كنت تعيش في هذه الدنيا «كومبارسا»، أنك كنت دائما تقوم بدور الداعم والمساند لنجاح الأخرين وظهورهم دون أن تقترب من النجاح؟ تكتشف أنك كنت تعيش على الحياة من خلال هامشها؟ وأنك نادرا ما كانت لك أدوار البطولة.
إذن نحن أمام ذبذبة إبداعية، تعكس قدرة الكاتب على اختصار ألاف الأسئلة في مساحات سردية قصيرة، وقد اخترت وصف مساحات سردية وليس مساحات نصية، مفرقا بين المساحة التي يقوم فيها السرد بأدواره كاملة وبين المساحة التي يسودها ويملأها النص بينما هي قد لا يكون لها أية وظيفة في السياق السردي، فالعبرة ليس بعدد الكلمات هنا، وإنما بالإقناع والمنطقية السردية، المنطقية السردية التي ينجح الكاتب تماما في أن يقنعنا فيها في أماكن عديدة، وفي أحيان أخرى نشعر بأننا نتوه معه في دوائر دون أن تصل إلينا الرسالة المتضمنة، وإن كان التشويق والجذب حاضرا في كل الأحوال، إلا أن الفحوى والمنطق السردي يغيب أحيانا.
لعل مثال على ذلك أقصوصة «هيام»، والمقارنة بين هيام ابنة الثامنة، وهيام ابنة العشرين، والرابط بين الحالين ما تحمله هيام في يديها من طفل صغير تلاعبه بنفس الطريقة، ومع انتقال الراوي من الغائب في بداية الأقصوصة: «عندما كانت هيام في الثامنة من عمرها خرجت حاضنة طفلا صغيرا، أخذت تدور حول جذر الشجرة المقطوعة أمام البيت، راحت تغني ...» صـ 32، وبين الراوي الحاضر في النص، الراوي بضمير أنا: «عندما أصبحت هيام في العشرين من عمرها خرجت من البيت – وكنت واقفا في الشرفة بحيث لا يظهر جسدي كله – تدور حول جذر الشجرة المقطوعة ...» صـ 33، من يمثل الراوي في السرد؟ هل هو الطفل الذي كانت تحمله هيام؟ أم هو زوجها وما تحمله هو طفلهم؟ ما المعنى المتضمن والرسالة المحمولة؟
 لقد أراد كاتبنا اختزال أمور كثيرة في دفقات القصيرة. استوعب العديد من الأسئلة عن الدور في الحياة، وعن رسالة الإنسان، لكنه أيضا يبدي ولعا شديدا بما وراء الطبيعة، أو بطريقة نظرنا لما وراء الطبيعة في الحياة، فعبر 8 أقصوصات هي:  «سيدة الدود»، و«طريق واحد»، و«أبو خليفة»، و«الدرويش»، و«نداء الموتى»، و«صن عوض الله العوامري»، و«الموت المطلق»، و«بيت الثعابين». عبر هذه الأقصوصات الثمانية تناول الكاتب اطروحات عن الجان والمارد والرصد والأحلام وحاوي الثعابين والدراويش وحالة الشبحية بين الحياة والموت، تناولها بمنظور لا يطرحها باعتبارها قابلة للشك أو حتى التحليل، وإنما باعتبارها وقائع قامت بأدوار محددة في تحقيق السرد وفي تحديد وظائف الشخصيات ومسار الأحداث، وفي أقصوصة «طفل صغير جدا» يخلع صفاتا اسطورية على ادراك طفل صغير بأن رجلا غريبا على وشك التحرش بأمه، فيقوم بمنع ذلك عبر التبرز على نفسه.
إذن كانت في مواضع كثيرة الأقصوصات ضاربة في العمق، ناجحة في أن تحقق المتعة والدهشة، وإيصال رسالة واضحة وعميقة الأثر في وعي المتلقي، وفي أماكن أخرى، غاب عن الأقصوصات عمق الرسالة، ولم تغب الجاذبية والتشويق القائمان على الوصف، لكن في بعض الأماكن اكتفت فقط بتلاعب الراوي بالوصف المكاني، وبمحددات المكان المحيط بالشخصيات، وغلب على المجموعة الراوي الخارجي كلي المعرفة، فقد تلاحظ لنا ندرة تغيير هذا النمط أو التحول عنه، وفي أماكن كثيرة يجيد الراوي التكثيف وتقديم الكثير في أقل مسيرة سردية ممكنة، بينما في أماكن أخرى كان السرد هو من يسيطر على الراوي، ورغم الجاذبية التي تدفع القارئ إلى الاستمرار في القراءة إلا أن شعورا ما بتضارب وصول الرسالة للمتلق يطرح نفسه أحيانا.

 إنها محاولة جيدة للتصويب، لكنك تشعر أن السهم قد حاد عن الوصول لمنتصف الدائرة، لقد وصلت الدفقة الابداعية لأعلى مستوى لها في «كوميديا الموتى»، و«تأبين ماكبث» و«سيدة الدود» - من وجهة نظري، وتركت مساحة للتساؤل في أقصوصات مثل «هيام» و«خط مستقيم» التي لا نعرف فهيا ما إذا كان عودة الدرويش لطبيعته مساء سببها اصطناعه ذلك صباحا أم غياب من يستفزونه في المساء، و«أبو خليفة» التي كان يمكن الاستغناء عن الكثير من الشخصيات المسماة والمكناة فيها دون تأثر في مسيرة السرد، و«التوهج» التي لم استطع أن أصل للرسالة المتضمنة في شفرتها. وبين هذه الأقصوصات وتلك، وفي كل الأحوال كان هناك قلم متميز في ابقاء القارئ بين دفتي المجموعة، لا يغادر صفحة دون أن يقرأها، بقي عليا أن أؤكد أن كل ما قدمته هو من قراءتي ومنظوري الخاص تجاه المجموعة، وهو المنظور ذاته الذي يؤمن بأنه لا صواب مطلق أو حجر على الذائقة الابداعية والنقدية، ومن ثم فإن كل ما قدمته قابل تماما لأن يقدم آخرون غيره وفق معطياتهم ورؤيتهم؛ لذا فإنني أدعو المزيد من القراء والنقاد إلى قراءة هذا العمل، وتقديم طرحهم حوله.
==========

قراءة نقدية لأربعة دواوين جنوبية:

قراءة نقدية لأربعة دواوين جنوبية:

الناقد/ وائل النجمي
تحتل العامية في هذا الأوان مساحة شاسعة من تأليفات الشعر، فمع انتشار الفضائيات، والمسابقات التليفزيونية التي لم تقم على اختيار نقدي حقيقي، ورغبة الشاعر في أن يكون قريب من الجمهور، وأيضا وجود مشكلات تلقي لدى الجمهور نفسه، أصبحت العامية هي لسان حال المجتمع، وهي لسان حال الكثيرين من الشعراء أيضا، ومن منظور الشعرية البحت فإن الشاعر له مطلق الحرية في اختيار القالب ووسيلة التعبير التي يرغب في إيصال رسالته بها، العبرة بقدرته على تقديم هذه الرسالة بشكل يحقق المتعة الجمالية، ويدفع القارئ إلى الإقبال والاستمتاع بالقول المقدم، ففي النهاية الجمالية وحدها هي ما تحدد قيمة العمل، ولا شك أن شعر العامية منذ بداية الموشحات الأندلسية حتى صلاح جاهين وفؤاد حداد في وقتنا القريب، لا شك أنه لم يحظ بالدراسة الكافية والتنظير النقدي والأكاديمي الذي يسمح بالكشف أكثر عن ظواهره وتصنيفه، وتوفير مصطلحاته اللازمة التي تعين الناقد على تقديم رؤية أكثر عمقا للعامية، وهي المفارقة بين كثرة انتشار العامية، وقلة النقد المقدم تجاهه.
واقترنت العامية منذ البداية حتى التطور الحديث اقترنت كثيرا بالميل لأسلوب الحكم، فغالبا ما يميل الشاعر إلى أن يضف صفات الحكمة والتعجب ورسم الدهشة على سامعه، لكن في اعتقادي مع تطور قصيدة النثر والاتجاهات الحداثية وما بعد الحداثية في الشعر العربي، فإن ذلك يجدر أن يلق بظلاله على العامية المصرية، ولا سيما في عنصر التخييل، الذي يمكن القول أن العامية تلق براحا أكثر في هذا العنصر لاتساع القاموس الدلالي الذي يغترف منه الشاعر، ففي العامية طاقات تعبيرية مرتبطة بروح العصر أكثر مما هو الحال مع الفصحي في تواصلها مع الناس، فهل نجح شعراء دواوينا الأربعة في تحقيق ذلك؟ هل كانت الدواوين العامية المقصودة هنا ناجحة في أن تحفر لنفسها مكانها في منظومة الشعرية العربية؟ أم أنها مجرد تكرار لمقولات توصف واقعا وتعكس مشكلات اجتماعية وشخصية لم تنجح في أن تتخط عقبة الشخصنة؟ فلندع الدراسة هي ما تقرر ذلك.

الديوان الأول: ((حزمة وجع)) لمحمد الريفي:

ما أصعب أن يتوه الإنسان من نفسه، وأن يصل لمرحلة البحث عن روحه، من الباحث ومن المبحوث عنه؟ في اعتقادي الباحث هو الذات المسكونة بهوس الشعر، والمبحوث عنه هو الإنسان في ظل هذه الدنيا الطاحنة، الإنسان أيا كان مكانه وزمانه، الإنسان في علاقته الأزلية بين آدم وحواء؛ لذا ليس مستغربا أن يقول الشاعر في القصيدة التي تعطي الديوان أسمها ((حزمة وجع)):
لساك ماشي تدور
على روحك
في عيون البنات
ويردف ((الريفي)) بتوضيح يبين نوع الأغنية التي يغنيها، فيقول:
بتعزف غنوة للأموات
اللي عايشين جواكرغم ان ف قلبك
حزمة وجع
كيف إذن استطاع الشاعر أن يغني ويعزف رغم أنه ممتلئ الوجع؟ لكن هل تولد الأغاني إلا من خلال الوجع؟ لكن الأموات الساكنين في داخل الشاعر: هل هم الشعراء القدامى؟ هل هم رمز للعادات والتقاليد؟ كل الاحتمالات واردة، وسرعان ما يعود الشاعر للشكوى من عدم قدرة أي بنت على التواصل مع المكنون والمخبوء في صدره. وهل نجح الشاعر نفسه في التوصل لمكنون صدره؟ ولماذا بنت بالذات هي من يتوجب عليها أن تتوصل للمكنون؟ أعتقد أن هدف الشاعر كان تحميل نصه بطاقة غزل ربما لم يكن محلها في النص هنا، أو قل أن المقام كان مهيئ لأن تكون القصيدة رغم عاميتها صاحبة أفق وجدانية إنسانية رحبة، فالناحية الغزلية هنا تقلل من انطلاقها، ورغم ذلك يواصل الشاعر تلاعبه بالمعنى العاطفي عندما يقول:
لساها نفسك خضرة
بس ما فيش بنت قادرة
توصل للمكنون
وتسحب م العيون
حكلة الحزن
اللي مسودة وشك
لكن يبدو أن الشاعر أدرك أن اختزال وجيعة الروح المشار إليها في قصيدته وأنه بحاجة للانطلاق لأفق إنساني أكثر رحابة؛ فاختار التناص الكوني مع الطير، متخيلا نفسه ذلك القادر على السمو والارتفاع، وهي من صفات الطيور، لكن من صفاتها أيضا عدم الاستقرار، خاصة عندا لا تجد لنفسها غصنا ترتكن إليه، يقول الشاعر:
كل ما تحط على غصن
يهشك
لساك بتحلم بالجنة
وست الحسن
وفي عيون البنات ميت
ومرة أخرى نعود للسؤال: لماذا الفتيات بالذات؟ لما لا يجعل الشاعر من قصيدته ملحمة كونية كبيرة تتناص مع حياة البشر جميعا، بدل من العودة واختزال المعنى بالعلاقة العاطفية؟ وأي البنات يقصد: البنات/ العاشقات، البنات/الزوجة؟ وهل نحن بإزاء صورة الدنجوان مقلوبة، ذلك الذي يحاول كل يوم أن يتواصل مع البنات لكنه أبدا لا تلق محاولاته القبول؟ وهل هذه التجربة بذاتها تستحق كل هذه المرارة؟ يقول الشاعر:
كل ليلة بترجع مهزوم
ناقع روحك في جروحك
ريقك لبان دكر
عن أي نوع من أنواع الهزيمة بالضبط يتحدث؟ كان يمكن أن نعزيها لهزيمة الإنسان في مواجهة واقعه، أو حتى لهزيمة المحب في التواصل مع معشوقته، لكن الهزيمة في عدم القدرة مع التواصل مع البنات أيا كانوا، وعدم القدرة على ايجاد تلك الفتاة التي تستطيع أن تمسح دمعة الحزن هما معنيان متناقضان، فهل الشاعر لا يستطيع التواصل مع أي فتاة، أم أنه يتواصل لكن ما يتواصل معه غير كافي؟ ولما لم يستغل أفق الكونية والبشرية التي كانت مهيأة للوصول بها بأفق القصيدة؟
الغريب في مجمل قصائد ((الريفي)) في ديوانه ((حزمة وجع)) أنك ما إن تشعر بانطلاق الوجدان، وانفتاح المعنى في التأويل للوصول لأفق رحبة حتى تجد نفسك تعود من جديد لانغلاق المعنى ناحية أفق عدم القدرة على التواصل مع المحبوب، بل عدم القدرة على ايجاد محبوبة من أساسه ينفتح لها وجدان الشاعر، رغم توق الشاعر لوجود مثل هذه المحبوبة إلا أنه يظل كالطلسم المستغلق، كل البنات حائرات على اكتشاف لغز هذا الطلسم، يقول الشاعر:
بعد البنات ما تروح في النوم
تفتح الألبوم
تبقي مكان كل فارس
مرة قيس .. جميل
مرة أبو الفوارس
وها هو يعود من جديد لمزاوجة معاني الحب بمعاني اعم دون انتصار لأحدهما على الأخر، ولنا أن نسأل: هل كان قيس أو جميل فوارس؟ ألم يكونوا مثالا لحال تملك العشق ووصول الإنسان إلى مرحلة الجنون؟ ألم يصل الأمر مع قيس بأن تعوذ أحد التابعين من العشق بعدما شاهد حالة قيس في الكعبة عندما دعا على نفسه بألا يبرأ من عشق ليلى؟ لكن الوضع عند الريفي معكوس تماما، فهو يميل إلى مفهوم الدنجوانية أكثر ما يميل إلى مفهوم العشق والهيام، يقول:
يا تقلع خشونة الصوت
وتلبس الكلمة ألف توب
وتمنع قلبك يدوب
يا تتجدعن وتموت
بس من غير صوت.
وكأن العبرة عنده بمدى قدرة الرجل على أن يكون له اسهامه في دنيا العقش والهوى، وفي نموذج أخر من ديوانه، قصيدته ((المهاود))، يقول فيها:
لما تكون ماشي
ف عز الحر
او بتعافر
لجل القوت
ومفيش سحابة تمر
صدقني دا أهون
من انك تكون
هدف منصوب
للشمس
إذن يرسم الشاعر موقف مسرحي كامل لإنسان يسير في عز الحر وهو يبحث عن قوته، ثم يصنع حالة من المفاضلة بين ذلك المطحون في لقمة العيش، والأخر الذي هو هدف للشمس، ولا نعلم هل الشمس هنا هي شمس حقيقية أم شمس رمزية؟ لكن سياق النص سيستبعد أفق الترميز في الشمس، ليضعنا في مواجهة المهن التي تعمل في مواجهة الشمس كالمعمار ومهندسين البترول وغيرهم، إلا أن الشاعر يقصد أولئك الذين يبيعون بعض الأشياء البسيطة في حر الشمس، والحقيقة الصورة هنا تتذبذب، والمفاضلة تخف وطئة معناها، ما الفرق الجوهري بين من يعمل في جو حار وهو كادح في عمله، وبين من يعمل في الشمس مباشرة، لا شك أن من يعمل في الشمس مباشرة أكثر تضررا، لكن الصورة كانت بحاجة لمفارقة أكثر بعدا حتى تتضح، وأيضا اختيار البائع الجائل لم يكن موفقا فبإمكانه أن يبيع تحت غطاء من الشمس، إن منطق العمل الداخلي بحاجة لإعادة النظر من قبل الشاعر.
يقول:
وما بين لحظة والتانية
يعدي عليك واحد
أو واحدة تنكش همك
تحرق دمك
تفاصل في العرق
تشكك في الميزان
وفي صورة مقلوبة لما يحدث في السوق من انهزام المشتري غالبا أمام البائع الذي دائما لدي ألف حيلة وحيلة لاستغلال المشتري، بائع الريفي يصيبه الضعف والوهن، فقلبه معلق ومفتوح لمن يبيع لهم، ليختار أن ينهزم أمامهم:
ولان قلبك
متعودش يبيع
غصبن عنك
بتلاقي نفسك
مهاود.
إن الرؤية لدى ((محمد الريفي)) لم تحسم أمرها بعد، ولا يزال تتنازعه العاطفة الشخصية والهم العام، ولا مانع من ذلك إن كان النص يستطيع حسم الصراع لصالح الجمالية الشعرية، لكن ذلك يتنازع النص، ويخلخل تلقي المعنى، فما إن تشعر بأنك على وشك القبض بمعنى محدد، حتى تنسحب لمعنى آخر، ما إن تشعر بأنك تتناول العام حتى تجد نفسك في الخاص، ومن الخاص للعام وهكذا، إذن ما تزال القدرات التعبيرية بحاجة لتوليد طاقات دلالية ومعنوية أكثر من المقدم لدينا في هذا الديوان من وجهة نظري.

الديوان الثاني: ((خايف أرد الباب)) للشاعر: محمد يوسف حامد

لا يخرج ((محمد يوسف حامد)) من أسر الخطابة والمباشرة والتقريرية في ديوان، إذ يبدو أن فخ الحديث عن البشر باعتباره مبررا كافيا بمفرده دون باقي عناصر الشعرية من صور وخيال وتراكيب، ذلك ما هيمن على تفكيره في اعداده لديوانه، وإن كان الشاعر يبدأ قصائده بصورة مركبة تخييلية رائعة لكنه سرعانا ما ينقلب عليها في مشكلات متعلقة بمنطق النص الذي رسمه لنفسه من ناحية، والتكرار المعنوي مع اختلاف اللفظ من ناحية أخرى، فمثلا في قصيدته ((لم الشراع)) نجده يقول:
لم الشراع
الريح ماتت من زمان
ومفيش أمل
نوصل سلام
الشط ضاع
فالإيحاءات التي يولدها الشاعر بفكرة الابحار تحيلنا للحياة نفسها، تلخيصا للإنسان الذي يبحر في بحر الحياة، الإبحار الذي عدة الإنسان فيه شراع يفرده في انتظار أن تجره الريح لتوصله لمراد، ولنا أن نتخيل حال صاحب الشراع إذا سكن الريح؟ يظل ساعتها الإنسان عالقا في مكانه، غير قادر على الحركة يمينا أو يسار.
ولكن المشكلة أن الشاعر سرعان ما ينقلب على الصورة الجميلة المقدمة والتي تستدعي إحالات شعورية ومعنوية ضخمة، فبدلا من المضي مع مشاعر هذا الانسان البائس الذي يقف لا يعرف كيف يتقدم في ظل تلاطم أمواج بحر الحياة، وبالتالي هو في حزن حاضر لا يحتاج لاستقدام حزنه وتذكره، لأن تذكر الحزن يحتاج نسيانه، ولم يقدم لنا الشاعر مبرر نسيانه، ليقول الشاعر:
وترسم الصورة القديمة
في عنينا تنبت دموع
لحظة رجوع الحزن
ف ضلوعي
القط دموعي وادحر
تحت الشراع
وبينما ترسخت في وجداننا صورة المياه الراكدة، والرياح الغائبة، يفاجئنا الشاعر باستحضار الخريف المليء بالرياح الكثيرة، يقول:
تاهت من زمن
لما حدفتنا المواسم
للخريف.
وإذا انتقلنا لقصيدة ((همسة عينيكي الكدابين)) فسنتفاجأ بالفارق بين المقدمة والتهيئة التي تعطيها مقدمة القصيدة عندما يقول الشاعر:
وأنا قاعد  ع الدكة
بشوفك
بتملي في الطرحة كسوفك
وانتي رايحة تجيبي
من السوق الحمام
لكن سرعان ما نتفاجأ بالانتقالة بين جو السوق والنهار والزحمة، لنصبح في جوف الليل، لماذا هذه الانتقالة المفاجأة؟ يقول الشاعر:
وتردي ع الليل السلام
ولا يقبلوش
واقعد سنة
واستنى انك ترجعي
وتعدي منيا السنين
وأشيب
إذن بينما تسلم تلك الفتاة على الليل في كل يوم يضيع عمر الراوي في الانتظار، ورغم أنه قدم لنا بداية القصيدة بايحاء الاعتياد على سلوك المحبوبة لدرجة أنه يعرف نوع السلعة التي ستشتريها – أعني الحمام – من قبل أن تذهب للسوق، إذا بنا نفاجأ بشكواه المرة من عدم رؤيته مرة أخرى لمحبوبته، كيف إن يمكن فهم هذا التضاد؟
لا يوجد أبدا إجابات في النص حول التضارب الدلالي، بل سننتقل من نقطة لأخرى دون إجابات شافية، لنعود من جديد لصورة لا نستطيع تبيان ملامحها الكلية من خلال تفاصيلها الجزئية، انظر للمقطع التالي من قول الشاعر:
وتغيب عن الأرض السما
وارجع أعيد البسملة
وسورة يس
والطرحة لسة ببتكسف
فوق الجبين؟
ما الإشارة التي يمكن أن نفهمها من استمرار كسوف الطرحة؟ هل شاهد الراوي محبوبته مرى أخرى؟ أم أنه يحكي عن خيالاته؟ وما علاقة ذلك بغياب السما عن الأرض، لا نعلم أيا من ذلك من ثنايا النص، بيد أن قفزة سريعة ستغير المعنى المقدم تماما وتحول مسار التلقي من علاقة عاشق بمعشوقته، لإنسان يرثى حال الدنيا بأكملها، من معاني التعبير الذاتي إلى معاني الملحمة الكونية، يقول الشاعر:
ضاعت ملامح دكتي
وملامح الطفل اللي
كان قاعد هنا
بيشابي على ريحة الكسوف
الضلمة جية من الكهوف
يدمج الشاعر بين معاني العشق ومعاني انزياح العمر، واستمرار رغبة الشاعر في البحث عن تلك الفتاة المكسوفة، لكن الانزياح هنا تحول من الحديث عن الفتاة، إلى الحديث عن الكسوف نفسه، كإشارة ضمنية لتغيرات في البنية التركيبية للخلق التعاملات، فهل يمكن في هذا الزمن ايجاد هذا الكسوف الذي كان يراه الشاعر – طبقا لنصه – في صباه؟ والمزاوجة بين الهم الخاص إلى العام إلى أن يصبح الوطن هو المضمر، ذلك المعنى المتضافر من المقطع التالي:
وعينيا لسه بتنظر همسة
عينيكي الكدابين
أيام عديتي ونا
قاعد هنا
بتسلى مع ضل الوطن
وأغسل عينيا من العفق
اللي حدفاها الشاشات
لا شك أن الشاعر هنا في مجمل أعمال ديوانه يبدو في كثير من قصائده قادرا على القبض على السياق والصور، ولكن في أحيان أخرى كانت تضيع منه المقدرة، ليصبح هو المنساق وراء النص الذي واضح أنه يحاول مزاوجة العام في الخاص والخاص في العام، فيوفق في بعض المقاطع ويخفق في أخرى، بل أحيانا يقدم صور لا يمكن فهمها في السياق المقدمة فيه، وعند النظر لها في ذاتها تبدو ملهمة واضحة، عند ضمها  لسياقها الأكبر فإن الصورة الكلية تبدو غير واضحة الرؤية، هل سيستطيع الشاعر في المرة القادمة امتلاك ناصية كلا من: الحكاية والصورة معا؟

الديوان الثالث: ملناش ثمن ليحيى جوهر

شعرة فاصلة بين الشعر والشاعرية، بين النظم والتأثير الانفعالي في المتلقي، بين الزجل الذي يميل إلى الإكثار من السرد والقص وتقديم التفصيلات، وبين التخييل والصورة الشاعرية التي تحلق بأفق المتلقي، وهذه الشعرة يبدو أنها تفلت أحيانا من ((يحيى جوهر)) في ديوانه ((ملناش ثمن))، خاصة في ظل الموضوعات ذات الطابع الجماهيري الشعبي التي يفضل كثيرا ان يكتب فيها، فكأن حنجرته الحيدة تحولت لجوقة من المغنيين يحاول كل مغني فيها أن يعبر عن هموم ومشكلات الناس، ويغيب صوت الشاعر الأساسي نفسه بوصفه قائدا لهذه الجوقة على الأقل، وإن كان يجب ألا ينس أنه صاحب السياق والموقف والتعبير، ولسنا هنا في عملية مفاضلة بين الذاتية والغيرية، وإنما نوجه النظر إلى ضرورة ظهور البصمة الشخصية للشاعر، ضرورة عدم اكتفائي بنقل الأحداث كما هي، فعليه أن يسبغها برية خاصة تسهم في اكساب النص شاعريته.
في قصيدة ((ملناش ثمن)) يقول الشاعر:
احنا ملناش ثمن                               ما احنا ملايين من البشر
وبدون عمل وسط الحجاة والتراب            زي الليمون وسط الشجر
ورغم محاولة الشاعر إيجاد تقارب بين شعر العامية والشعر العامودي الفصيح بقولبة الكلام في شكل القصيدة العمودية، إلا أن القصيدة تشهد عدة اخفاقات في الوزن والايقاع والقافية أحيانا، لكن ما أرغب في التوقف إزائه عدم مناسبة الصورة والتمثيل الذي يتحدث فيه الشاعر عن تمثيل كثرة أعداد البشر وسط الحجارة والتراب، بالليمون وسط الشجر، وصورة الليمون وسط الشجر لا تستدعي التأثير النفسي للناس الملقاة بين الحجارة والتراب لا تجد عملا أو مراعاة؟
لا أبالغ إن قلت أن الإسهاب والتقريرية دفعت الشاعر في الكثير من الأحيان إلى تناسي مبدأ التكثيف، ليقع في مشكلة الإسهاب والتكرار في المرادف المعنوي، فمثلا في قوله:
وتيتموا اطفال كتير                    ومئات من الأسر
ماذا أضافت ((مئات الأسر)) لكثرة الأطفال الذين تيتموا؟ أليس المعنى هو نفسه؟ الصورة هنا تفلت من يد الشاعر لصالح اغراء الحكي والاستطراد الذين وقع فيهما الشاعر، لكنه في بعض الأبيات النادرة يظهر قدرة على تملك التعبير، يقول:
عبارة هلكانة وقديمة                          للغلابة تكون تابوت
تصاريح غلط .. شهادات غلط                وبدولارات وبدون فحوص
واعمل نعوش جو اسفن                       وغطي بالرموش على ناس لصوص
وبغض النظر عن تشابه تحول السفينة لتابوت والواردة في عجز البيت الأول من المقطع السابق، مع ((عمل نعوش)) الواردة في صدر البيت الثالث، إلا أن هذه الحزمة من الأبيات أقل الأبيات التي تظهر فيها مشكلة اضطراد الترادف، ولعل الترادف يصل ذروته عندما يقول الشاعر:
ايه الفق بينهم وبين شارون           وبين صهاينة أشقياء
فهل يصنف الشاعر شارون على أنه نوعية أخرى غير الصهاينة حتى يعقد نويعن من المقارنة بين الحكومة التي تقتل بالإهمال والفساد أولادها، والحكومة التي تقتل بالسلاح والعتاد أبرياء للحفاظ على أولادها، بيد أننا كعرب نحن المقتولون في كلا الحالتين.
في قصيدة ((حوار ساخن بين الحكومة والمواطن)) اختار الشاعر لنفسه مهمة شاقة، فهو اختار أن يجري حوارا يستنطق فيه كلا من ((الحكومة))، لينوب عنها شاعرنا في القصيدة رغم تعدد مؤسساتها، ووجهات نظرها المختلفة، وأيضا يستنطق ((المواطن)) كممثل أيضا لكل فئات المواطنين المطحونين الذي لا يجدون عملا أو خدمات أو رعاية، والمهمة الشاقة في هذه الفكرة أنه من السهل جدا بلورتها في مقالة أو أي فن من فنون النثر، لكن عند دمجها في القالب الشعري فإن عبء التخييل سيصبح صعبا، فالشعر تفكير بالصور أساسا، كل ذلك يجعلنا ننطلق صوب النص ونحن نسأل أنفسنا: ما التقنيات الشعرية والتخيلية والتصويرية التي سيتبعها الشاعر للتغلب على خطابية موضوعه الذي اختطه لنفسه؟
في مواجهة هذا التوجس سنتفاجأ بأن طاقة التخييل في النص الشعري الطويل إلى حد كبير لا تستطيع أن تكسر خدة الخطابية والتقريرية بين ((الحكومة)) و((المواطن))، ليتحول الأمر إلى سجال عقلي أكثر منه إلى طاقة من الابداع والتخييل، فقد كان مطلوب من الشاعر أن يعيد صياغة هذا السجال بقالب من المجازات والصور، تماما كما شاهدنا في محاورات سابقة وتاريخية في الشعر العالمي، كمحاورا أفلاطون أو أبيقور، أو حتى في شكاوى الفلاح الفصيح الذي كان يفند في كل شكوا حجة أو ردا جائه من قبل، فمثلا تقول الحكومة عند ((يحيى جوهر))
أنا اللي دخلت المجاري
ونورت الشوارع والحواري
وأنشأت المصانع والكباري
ووفرت التعليم بالمجاني
وبعد كل ده ترميني بالشكاوي
يبني الشاعر منطقية قصيدته عبر تقديم الحجة ونقض الحجة فيما يليها، وبدلا من أن يحاول الوصول للفكرة عن طريق جوانبها التصويرية، يعتمد فقط على مقدار صدى الفكرة لدى الجمهور والمتلقي، أما القار الخبير فقد كان يبحث عن الفكرة متضافرة بالصورة، أما القارئ العادي فهو يبحث عن تعاطف المؤلف مع هموم المواطن، ويبدو أن الشاعر انحاز للقارئ الذي ستتغير نظرته للمواقف لو تحسنت الأمور قليلا، بينما الطاقة الابداعية لو وضعها في نصه لكان ضمانا لتحول النص من بيان شعبي عن هموم ومشكلات إلى رؤية مبدع تتجاوز الواقع والمكان والزمان لتصبح متعة ابداعية في أي مكان وأي زمان، ذلك ما نتمنى أن ينجح في تحقيقه شاعرنا في أعمال قادمة.

الديوان الرابع: ((بنص عمري أعيش)) للشاعر: ((أحمد بكري العنفصي))

من المبادئ الهامة للجملة الشعرية عنصر التكثيف، فبعكس الفنون النثرية التي تقوم على الإسهاب والوصف كالرواية مثلا، تقوم العبارة الشعرية على الاقتضاب مع القدرة على توليد أكبر كم ممكن من المعاني من أقل الألفاظ والكلمات، وهي السمة التي تلاحظ غيابها في ديوان ((بنص عمري باعيش)) للشاعر ((أحمد بكري العنفصي)) فمنذ بداية الديوان مع قصيدتع التي حمل الديوان عنوانها نجده يقول:
كل ذرة
صبر ما لوش أخر
وأحزان في القب بتداخر
ماشية ف عروقي
حرقة قلبي عليك
ما ليها أول من آخر
دي .. العشرة مش بالساهل
دنا .. أستاهل
لقد أغرت الموسيقى والتلاعب اللفظي الشاعر في الانسياق وراء الجناس: (أخر ـ بتداخر ـ أول من أخر) ثم (الساهل ـ استاهل) وفي زحمة الإيقاع والموسيقى تناسى الشاعر المعاني المتولدة داخليا، فالشعر العامي والحر بعامة يبني شاعريته بشكل أساسي عن طريق روعة الصورة، وليس سلاسة الصياغة وسهولة العبارة، والصورة هنا مقارنة باسهاب الوصف بحاجة ماسة إلى إعادة الصياغة من جديد.
وبالمنطق نفسه يستمر الشاعر في قصيدته تغريه امتلاكه لقدرات السجح والجناس، وتفلت الصورة والفكرة منه، يقول:
دا انا
عمري ضايع ف النسبة
رفعت وخسيت كشيت
احضني مرة كمان البد فيا
خدرني .. فين رجليه
خفف عني جمر الشوق
ورغم ما كان يمكن للنص أن يصل  إليه عن طريق جذور الفكرة التي طرحها الشاعر حول مخاطبة المحبوب وامنيات اللقيا، إلا أن الصورة التي تتشكل سرعان ما نجد أنها تضعي منا، ويصل الأمر ذروته عندما يقول:
اعزقني وبعزقني ف دمك
خلطني اشركني ف همك
كرمشين وسربني وسربني
وجوه ضلوعك رسبني
تتزاحم هنا الألفاظ المتلاحقة التي تعمل على تشتيت القارئ والقصيدة، وتضعف من تواصله مع النص، تجعل من الصعب عليه متابعة الصورة الكلية المتشكلة والمعني العميق الذي يخاطب الوجدان، ولا نجد في مقابل الألفاظ المتداخلة التي تضغط على الأذن، معاني مكافأة في القوة تفتح الوجدان للتلقي.
وربما تكون قصيدة ((طلع النهار)) من القصائد التي حاول فيها الشاعر أن يقيم توازن بين الصورة والجرس اللفظي الموسيقي، يقول:
تتدارى في جفون الزمن
تسكن سراديب المحن
خيوط الأحزان متعطرة بالحسك
مترشرشة بوهج النار
نايمة في جوف اللزج
وتتضح هنا قدرة الشاعر على توظيف النص، وعلى تقديم الصورة الشعرية المتراكبة المعبرة عن قهر الزمن، فتراكيب مثل: (جفون الزمن، سراديب المحن، خيوط الاحزان، متعطرة بالحسك) كلها تعبر عن قدرات هائلة من التعبير، كما أنها تخاطب التداعي النفسي الشعوري للقارئ حول تجسد مقدار الألم الذي يشعر به القارئ في جو القصيدة، لكن سرعان ما تشعر أنك تسير في طريق ممهدة وفجأة تجد نفسك تصطدم بحجر ثقيل مع قوله: (جوف اللزج))، أين موقعها من الصورة الكلية؟ ما المقصود بها بالضبط؟ هل هي بقوة ما سبق تراكيب تصويرية؟ كيف يمكن فهمها في مجمل النص؟ هذا مثال لما يقع فيه الشاعر من حالة أشبه بحالات التفاوت بين المقدرة وحسن التوظيف، بين الفكرة والسياق اللفظي.
في هذه القصيدة يمتاز التنغيم الصوتي بالتناغم مقارنة بقصائد أخرى، فيها يعتمد الشاعر على سلاسة الإيقاع الداخلي وليس الخارجي، يقول الشاعر:
في انتظار الاختيار
لابسة ثياب الهزم
مشاوير انتحار
دموع الخوف والانهيار
تحفر في قبر الصمت
ده .. بير .. مقادير
وليست الميزة هنا في التكثيف الدلالي وهدوء الجرس الموسيقي فحسب، بل أيضا في قدرة الشاعر على إدماج الصور الجزئية التي يقدمها عبر صورة كلية لا تخالف في مجملها الحالة النفسية والشعورية، وإنما تعزز ذلك، فمع المضي مع السطر الشعري الأول نتخيل أنثى تنتظر أن تختار، وهذا يحيلنا لا شك لمرارة الاختيار وصعوبة تحمل نتائجه ناهيك عن عدم جودة البدائل أحيانا، وأحيانا يضطر المرء للاختيار مرغما، كل ذلك مفتوح في السطر الأول، ثم نمضي مع الثانية لنكتسب معنى جديد به صورة ((ثياب الهزم)) فيعمل الذهن تلقائيا على ربط الصورة بسابقتها ليضيف لهذه الأنثى التي عليها أن تختار اشفاق ان تكون مهزومة، مما يوحي بأنها ليست حرة تماما في الاختيار، وهكذا مع كل مضي كل سطر هو معنى في ذاته، ويضيف معنى جديد لسابقه.
ورغم ذلك لا يستطيع الشاعر أن يتغلب على ميله للمحسنات اللفظية التي تغالبه قدرته على استخدامها، ليعود من جديد فيقدم تلاعب لفظي لكنه في هذه المرة يقلل من قيمة الصورة التي كان يمكن لها أن تتشكل، يقول الشاعر:
ريا أمشير
كما المناشير
تعب ولهب
رعب وقلق
أعوذ برب الفلق
بيعصرني الخوف والقلق
النقاط التي يقدمها الشاعر في محاولة بناء الصورة الكلية هنا تضغط على وعي القاري، ويمكن لنا ان نتخيل لو كان النص متحرر من (تعب ولهب، قلق وفلق ثم القلق)، لو استمر الشاعر يصاعد حالته وصورته التي قدمها ومهد لها لكي تكون متداخلة مع تركيب كلي لمجمل القصيدة، كيف سيكون الحال على تأثيرها على المتلقي؟
ومع ختام القصيدة نقع أمام مجانية مفرطة من التناص مع الموروث الديني باستدعاء قصيدة ((طلع البدر علينا)) تغنيها الحواري للنهار الطالع، الصورة هنا تقدم بدون أية منطقية للتوظيف، ما العلاقة بين النهار الطالع ودخول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم للمدينة المنورة؟ هل هناك معاني متكلفة كان الشاعر يريد أن يقولها لكنه لم ينجح في التمهيد لها، كأن نقول مثلا أن التمسك بتعاليم النبي الكريم هو السبيل لطلوع الفجر، وبزوغ النهار للتخلص من كل ما سبق أن تقدم؟ لكن المشكلة أن السياق ليس فيه ما يوحي بذلك، لماذا كرر الشاعر هذا المقطع الأخير مرتين؟ أسئلة تبقى بدون إجابة، وطالما ظلت بدون إجابة فإن إخفاقا ما يصيب دلالة النص.
إذن تتأكد ظاهرة أن الشاعر يعيش حالة من الصراع بين المحسنات والتناغم اللفظي، والصورة الشعرية، أحيانا ينتصر لصالح التلاعب اللفظي والتنغيم الايقاعي، وأحيانا ينتصر لصالح الصورة الشعرية، وساعة ما يتم الانتصار للصورة الشعرية يكون على حساب المحسنات اللفظية، رغم أن جوهر العملية الابداعية يقوم على توظيف كل منهما لصالح الأخر، يقول الشاعر في قصيدة ((نشيد العنكبوت)):
قد ايه من عمري
فات ومات
والباقي اللي مش جي
عشش يا عنكبوت
جوه قلب الوطن
وأعزف وغني
نشيد العنكبوت
نشيد الموت
وكور .. جناحك
وانسج خيوطك
وعيش وهيش
سنلاحظ على المدى المقدم أنه ساعة ما تتعمق الفكرة تقل المحسنات اللفظية: عشش يا عنكبوت/ جوه قلب الوطن/ واعزف وغني) وسرعان ما يدرك الشاعر أن الإيقاع بحاجة ماسة إلى تدارك، أو كأنه لا يقنع بأن يعتمد على الفكرة والصورة وحدها، فيوعد من جديد لتكرار العنكبوت مرة أخر فيكتب: واعزف وغني/ نشيد العنكبوت) هل أضافت جديد؟ لكن لكي يستقيم التوازن اللفظي مع ما يليها (نشيد العنكبوت/ نشيد الموت) وإذا ما اختزلنا الأسطر الشعرية التي يشير فيها الشاعر إلى فكرة استلاب الوطن ليصبح المقطع: (عشش يا عنكبوت/ وغني نشيد العنكبوت) إذن هناك مشكلة في رسم الصورة، وتشكيل العبارة، فتكرار العنكبوت لم يكن له مبرر، سوى تفضيل الشاعر للتناغم الصوتي أكثر من تفضيله لبناء الصورة الشعرية، سواء الصورة في ذاتها، أو الصورة المركبة على مدى النص؛ لذا حاول بعديها الشاعر أن يشعر القارئ أنه يقدم جديد فأردف (نشيد العنكبوت/ نشيد الموت) دون أن يكون أيضا للموت هنا اضافة حقيقية تسهم في تأكيد المعنى الشعري.

إذن لا بد من أن يقوم الشاعر أحمد بكري العنفصي الذي يقدم لنا دلائل قدرته على امتلاك الصورة والسياق، عليه ن يصل لمرحلة التوافق بينهما، وعليه أن يستخدم قدراته في التشكيل اللفظي على تقديم تشكيلات مناظرة على مستوى الصورة والتخييل، ذلك ما سيعزز من قيمة التواصل مع النص المقدم.
===========

نشرت ضمن كتاب المؤتمر الأدبي الأول لإقليم جنوب الصعيد الثقافي ... أسوان يونيو 2013 صـ211 إلى صـ230

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان)

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان) بحث: الناقد وائل النجمي يعد مفهوم "وحدة القصيدة" من المفاهيم اله...