الأربعاء، 26 فبراير 2020

أنماط توظيف "التراث" في التوجه للحداثة


أنماط توظيف "التراث" في التوجه للحداثة 

دراسة الناقد والباحث: وائل النجمي
للتراث العربي تأثيرا خاصا على النفس العربية، فهو مرتبط بالأصول الدينية الإسلامية من ناحية، ويُذَكِّر بعصور الازدهار والقوة عندما تمكنت الأمة العربية من حُكم العالم وتأسيس قوة عظمى من ناحية أخرى. ولا شك أن في استعادته فخرًا بالأسلاف العرب الذين استطاعوا رغم الصعوبات التي واجهتهم أن يصنعوا المستحيلات بشهادة التاريخ نفسه؛ وبالتالي فإن التراث العربي يثير في النفس حُلم النهوض من الأزمات والعثرات التي تعاني منها الأمة العربية؛ لكي تستعيد بعضا من مجدها الذي كان موجودًا سابقا، وفُقِدَ في المسيرة التاريخية في ظل الأزمات والصراعات السياسية وغيرها من العوامل.
ومن ناحية أخرى، للتراث العربي أهمية منهجية أكاديمية لمن يعمل في حقلي اللغة والأدب، لا يمكن تجاهلها؛ حتى لو استعان الناقد بمناهج نقدية حداثية غربية؛ لذا كان التراث العربي حاضرا عند النقاد في توجههم للحداثة(*)؛ لكن برد فعل مختلف فكان هناك: أولا: الرافض "للحداثة" باعتبار أن في التراث العربي ما يغني عنها، وكان هناك ثانيا: من يرى أن "التراث العربي" ببعض الجهد والعمل يصبح بديلا كاملا لهذه النظريات الغربية، وأخيرا:  هناك اتجاه عمل على وصل الماضي بالحاضر من غير الوقوع تحت أسر أحدهما(_).
يبدو المثال الواضح للاتجاه الأول عند الدكتور ((عبد الحميد إبراهيم))، الذي أتخذ مواقف أولية من "النظريات النقدية الحداثية" بالاعتماد على رصيده السابق من خبرته النقدية، دون أن يتح له الاطلاع فعليا على مصادرها – وقتما اصدر موقفه الأولي()، ومن ثم دون التحاور فعليا معها بالتطبيق والتجريب باستخدام أسسها؛ لذا ليس مستغربا أن يكون موقفه التعارض كليا مع النظريات الحداثية. حيث رفضها الدكتور ((عبد الحميد إبراهيم)) من منطلقات دينية، يقول: ((فهي أفكار تضرب إلى بنية الحضارة الأوربية، وهي حضارة ترتد إلى جذور إغريقية وثنية، تتمرد على صورة الإله في تراثها، وتراه يحد من انطلاقة الإنسان، وتفترض صراعا أو تعارضا بين الإله والإنسان(...)))([1])، والسؤال: هل اختلاف الأديان والعقائد يقف حائلا بين الحضارات دون الاستفادة من إسهاماتها الثقافية؟ ألم تتوجه الحضارة العربية إبان الدولة الإسلامية سابقا إلى الترجمة والأخذ عن الفرس والروم واليونان، في ظل سيادة دولة إسلامية شجعت ذلك! رغم أن الفلسفات التي كانت لدى هذه الحضارات وقتها هي الجذور الوثنية ولم يتنكر السلف الحضاري الأول لهذه الثقافات وإنما حاولوا الاستفادة منها، أخذ ما هو نافع منها وترك ما هو ضار.
لكن من منظور الدكتور ((عبد الحميد إبراهيم)) فإن النقاد بنقلهم لهذه النظريات فعلوا ذلك على سبيل التساهل والكسل عن بذل المجهود([2]). فهو يرى أن كل ما جاءت به النظريات الحديثة موجود بشكل أو بآخر في الموروث النقدي، لكن إذا كانت جذور تلك النظريات موجودة فعلا في التراث العربي؛ فلماذا لم يصل النقاد العرب إليها قبل الغربيين؟ إن القضية لها بعد آخر يتمثل في أن النقاد العرب الذين يعودون للتراث يسقطون عليه ما أتيح لهم من استبصار ورؤية أوضح وأعمق تكونت حاليا بفضل النظريات الحداثية، وبالتالي فإن هذا الموقف الذي يرفض "النظريات النقدية الحداثية"، إنما هو متفاعل معها أصلا من خلال ما يسقطه من مفاهيمها على التراث؟ ومن ثم يصبح التراث نفسه الذين يدعون بأنه متضمن كل ما جاء في النظريات الحداثية، ليس هو التراث حقيقة، بل هو التراث المستبصر به بوعي جديد وفهم جديد، وعي وفهم حداثي في الحقيقة.
وإذا ما انتقلنا إلى المنظور الثاني فقد كان يرى في النظريات الغربية غازٍ أجنبي، لا بد من صده من خلال التراث النقدي بالعمل على تأسيس نظرية نقدية عربية، ليس بالاعتماد على قراءة متطلبات الواقع ومشكلات اللحظة الراهنة، وإنما بالاعتماد على المعطيات التراثية وحدها، لكن الأمر ليس على هذا القدر من السهولة في شأن تأسيس نظريات نقدية، يقول الدكتور ((شكري عياد)):: (((...) مبلغ علمي عن ((النظريات))، (...) أن أصحابها لا يجلسون ليقولوا: هلموا نضع نظرية. إن النظريات لم توضع، وما كانت لتوضع باختيار أصحابها.))([3])، فهو يحذر من خطر التعسف في ذلك، والحقيقة أن ما ينبغي ليس أن يكون لدينا: ((نظرية نقدية عربية))، وإنما ينبغي أن يكون لدينا: ((نظريات نقدية عربية))، وهو ما يعني البعد عن الانغلاق في دائرة أحادية النظرية، إلى تعددية وجهة النظر تجاه القضايا المختلفة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتعمق في التراث أولا، ثم التعمق في النظريات الغربية ثانيا، وبعد ذلك محاورة الواقع العربي، ومن خلال هذه المحاورة يعرض كل مفكر رؤيته تجاهها، ومن هذه الرؤى ومن التحاور بينها تخرج على مر الوقت نظريات نقدية تقدم حلولا للمشكلات المطروحة.
لذا كان لتعمد تأسيس نظرية نقدية عربية سلبيات، تمثلت في استنطاق النظريات النقدية الحداثية من خلال التراث النقدي، فتم التأكيد على أن كل ما وصلت إليه النظرية الأدبية المعاصرة كان موجودا في التراث العربي القديم، ولكن بمسميات أخرى، ومن ثم مضى المنظِّر في الكشف عن المسميات القديمة وما حل بدلا منها من مسميات جديدة، وهكذا فإن هذه المحاولة لا تختلف عن سابقتها التي تقوم برد كل المنجزات الحديثة إلى أصول قديمة، لكنها تدعي وهي تفعل ذلك أنها تُقَدِّم نظرية نقدية متكاملة الأركان. وهكذا نجد الدكتور ((عبد العزيز حمودة)) يرى أن محوري ((دو سوسير)) التعاقبي [يقصد "علاقات التراكيب"Syntagmatic والاستبدالي[يقصد "علاقات الاقتران" Associative]، قد تنبه إليهما ((عبد القاهر الجرجاني)) من قبل، ولكن تحت مسمى: ((علاقات الجوار)) و((الضم والاختيار))([4]) على التوالي، وبالصورة نفسها يحدث الأمر مع: "اعتباطية العلامة" و"اللغة" و"الكلام" وغيره من المصطلحات([5])، وهكذا دون الالتفات إلى المشكلة الحقيقية، وهي أن الممارسة النقدية بحاجة إلى أسس جديدة تتعامل بها مع الإبداعات الأدبية الجديدة، في ظل واقع نقدي انهارت فيه الرؤية النقدية الاجتماعية وأصبح يعاني حالة من الفراغ النقدي، وفي ظل واقع اجتماعي تغيرت، وتتغير فيه الحياة الثقافية الاجتماعية الاقتصادية(G).
وأخيرا فإنه يجيء الحديث عن التوجه الثالث، وهو الذي يحاول أن يفك الانغلاق عن ذاته بالنظر ليس إلى القديم وحده، ولا إلى الحديث وحده، وإنما بوصل التراث بالنظريات الحديثة، والعمل على التكامل بينهما، يقول الدكتور ((محمد عبد المطلب)): ((وبين هذين، يأتي تيار ثالث يفيد من الوافد الغربي، ويتابعه في آخر منجزاته بفهم محايد، وترحيب معتدل، كما يفيد من الموروث العربي، ويتابعه في كثير من الألفة والعطف، ثم يفرغ لنفسه في استخلاص الصالح من هذا وذاك، محاولا تشكيل وعي نقدي مزدوج وموحد على صعيد واحد، لا يعرف الانفتاح المنفلت، ولا يؤمن بالانغلاق المتجمد، وإنما انفتاحه وانغلاقه محكوم بخصوصية النص، وما يمكن أن يتقبله أو يرفضه، وقد استطاع هذا التيار أن يحقق لنفسه حضورا متزنا وأمينا في الواقع الإبداعي والنقدي على امتداد الوطن العربي.))([6])، إن هذا التيار يمتاز بأنه لا يرى أن التراث النقدي وحده كافٍ من أجل حل مشكلات النقد العربي، ولا يرى في الأخذ من الغرب انتقاصا في حق القومية العربية، وإنما عينه مفتوحة على مشكلات الواقع الأدبي والنقدي، يحاول من خلال تأمل هذا الواقع الوصول إلى حلول، عن طريق الاستفادة من معطيات كلا من "التراث النقدي"، و"النظريات المعاصرة"، بدمجهما في منظور موحد، وهو ما لم يتوفر مع أي من التيارين السابقين؛ لذا كان سمت هذا التيار أنه ذو جانب تطبيقي أساسا، وأكبر دليل على ذلك أن الدكتور ((محمد عبد المطلب)) وظف التراث النقدي في التعامل مع قصائد حداثية أساسا، بكل ما هو معروف عن هذه القصائد من سمات خاصة، قد تبدو للبعض أنها تتعارض مع التراث.
والآلية التي يتبعها هذا التيار هي العمل على رصد المتغيرات وتعليلها وتوضيح دلالتها في هدوء، دون تجني على التراث بأنه وَلَّى وانتهى زمانه، ودون الوقوع تحت سطوته بأنه هو فقط ما ينبغي أن يُتبع وما يجب أن نمشِ على هديه في النقد المعاصر، ودون تجاهل للنظريات النقدية الحديثة، ودون إغماض عين عما توصلت له هذه النظريات من إنجازات ومن استبصارات، تأمل المقولة التالية: ((لقد تسلط هذا التجريب على النص بوصفه لغة قابلة للانتهاك لا للقداسة، وبحكم حميمية الرغبة في الانتهاك، فإنه من المحال التنبؤ بملامح النص الحداثي نتيجة لإهدار كل المراجع الوضعية والواقعية والعرفية لحساب الشعرية، ثم وصل الإهدار إلى (التوصيل)، فلم يعد من المطلوب أن يقول النص شيئا ما، بل المطلوب رصد كيفية إنتاج هذا المقول، أي أن (الموضوع الشعري) لم يعد من بين اهتمامات الشعراء، إنما الاهتمام أصبح منوطا بأدوات الإنتاج وتقنيات التعبير.))([7]) ، إن رصد التغيرات الحادثة في الأدب يتم من خلال الوعي بما أفرزته النظريات النقدية الحداثية من توضيحات، "كالشعرية" و"التوصيل" و"تقنيات التعبير"، وغيره، وذلك بالتلاحم مع المعطيات التراثية التي قد تعود لقضايا فقهية أحيانا كقضية "الخنثي المشكل" مثلا([8])، وهذا الاتجاه يُطغِي اهتمامه بالقضايا التطبيقية وبمتابعة المشكلات الكامنة في الأدب العربي، عن الاهتمام بالخوض في أصول وتفريعات نظرية، قد لا يؤدي الخوض فيها إلى الوصول لفائدة تستحق العناء، ومن الواضح أن النقد العربي بحاجة إلى تنمية هذا الاتجاه وإلى تطويره والتعمق فيه، من أجل الوصول إلى حلول أساسية وجذرية لقضايا ومشكلات الأدب العربي.
بقي عليا أن أشير أن هذه النماذج الثلاثة التي تم التمثيل بها لكل توجه ليست هي فقط حاملة لواء هذا التوجه، وإنما كانت من وجهة نظري هي الصورة الأبرز والأكثر وضوحا ونقاء عن الظاهرة الممثلة، لكن هناك العديد من النقاد الذين يمكن أن يتم ادراجهم في كل فئة، وهناك نقاد تنقلوا أو توزعت جهودهم بين محورين أو أكثر من هذه المحاور، ولعل هذه الدراسة فاتحة لتتبع مواقف النقاد وتحركاتهم والبحث فيها.
أمر آخر، لا تهدف الدراسة إلى اعلاء أو اظهار توجه بأنه كان هو الأفضل دون غيره، وإنما تقدر الدراسة لكل من تم ذكره اجتهاده وموقفه الذي اتخذه من متغيرات الواقع التي واجهت الفكر العربي في وقتها، وإذ كنت الآن أرى ترجيح توجه عن باقي التوجهات فإن هذا يأتي بعد مضي أكثر من ثلاثة عقود فاصلة عن هذه التوجهات، ومن ثم فالوعي المكتسب لدى الباحث الآن لم يكن متاحا لهم، وليس للباحث فضل أو دور فيه، وإنما تراكم الخبرة وقراءة المتغيرات المتتالية هو ما يتيح امكانية الانتصار لتوجه دون آخر الآن.
لقد كان الهدف من هذه الدراسة اثبات أمرين، الأول أن الذين زعموا أنهم يمكنهم الاستغناء عن الحداثة باستخدام التراث، كانت الحداثة حاضرة في نظرتهم للتراث، وكذلك الحال أيضا، فإن من يزعمون أنهم يمكنهم الاستغناء عن التراث باستخدام الحداثة، كان التراث حاضر في حداثيتهم، لكنني لم اتناول موقفهم هنا، وانما تناولته في موضع آخر([9])، وحللت عناصر التراثية التي ظهرت في توجهاتهم الحداثية، بل إذا كانت بداية الحداثة هي محاولة استخدام التحليل اللغوي في الممارسة النقدية للوصول به لأكبر قدر ممكن من العلمية، فإننا لا نملك أية معطيات للتحليل اللغوي للنصوص العربية إلا ما وفره لنا التراث من بلاغة وعلم لغة ونحو وصرف، لذا فإن الكثير من المقولات التي يتم اطلاقها في هذا الشأن هي مقولات لا تتبصر لواقع الأمر المنجز في الدراسات التطبيقية لنقد النصوص الأدبية، ومن وجهة نظري فإن الممارسة التطبيقية في نقد النصوص الأدبية هي المعيار الأساسي للحكم على حقيقة المفاهيم التي يتبناها أي ناقد مهما قال أو ادعى بأنه يتبن هذه أو ذاك.
 





(*) أقصد بـ"النظريات النقدية الحداثية" هنا النظريات البنيوية وما بعدها.

(_ ) لقد حذفت هنا المواقف المعادية للتراث، لأن العنوان توظيف التراث، وربما في دراسة أخرى أدرس المواقف التي تعسفت في استخدام الحداثة في مواجهة التراث.
( ) ظلت لفترة المراجع الأصلية للحداثة متمثلة في البنيوية وما بعدها غير متوفرة في العالم العربي، وفي خلال هذه الفترة عندما أصدر الدكتور عبد الحميد كتابه الواردة فيه رأيه كان مقيما في السعودية، كما أنه لم يستشهد في كتابه بأي مرجع أصيل أو أساسي للبنيوية وما بعدها مكتفيا بتحليل أراء النقاد العرب الذين قاموا بدور الطليعة تجاه الحداثة، رغم ما أثبتناه في مواضع أخرى من أخطاء أساسية في فهم هذه الطليعة لهذا الفكر، ومن باب أولى لمن يريد نقدهم أن يشر لهذه الأخطاء، وقد تأكدت مما أورده هنا بمناقشتي المباشرة معه عن هذه الحقبة التي اصدر فيها كتابه ((نقاد الحداثة)) – رحمة الله عليه – فإن هذا ما أكد لي أنه لم يكن قد قرأ مصدرا اصيلا للبنيوية وما بعدها وقت اصداره كتابه، بحلاف ما حدث فيما بعد، لكنه لم يعد ليغير أو يبدل موقفه عما ورد في كتابه ((نقاد الحداثة))، بل هو إلى حد ما يتخذ موقف من قراءة هذه الكتب، وربما في وقت أخر أناقش وأحلل رؤيته العميقة ومقترحه حول (الوسطية العربية). ولمن يمتلك أدلة على خلاف ما أقول فإنني سأكون سعيدا بتلقيها حتى نصحح هذا القول، إذ من الضروري أن يكون هناك تأريخ نقدي واعي للنقاد العرب.
([1]-) أنظر: عبد الحميد إبراهيم: ((نقاد الحداثة وموت القارئ))، مطبوعات نادي القصيم الأدبي، ،بريدة، 1415هـ، صـ38.
([2]-) السابق، صـ44.
([3]-) د.شكري عياد: ((علي هامش النقد))، أصدقاء الكتاب للنشر والتوزيع، القاهرة، 1993م، صـ27.
([4]-) د.عبد العزيز حمودة: ((المرايا المحدبة: من البنيوية إلي التفكيك))، سلسلة عالم المعرفة، [عدد (232)]، الكويت، 1998م، صـ257.
([5]-) السابق، صـ257-304.
([6]-) د.محمد عبد المطلب: ((النص المشكل))، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة كتابات نقدية [92]، القاهرة، يوليو 1999م، صـ22.
([7]-) السابق، صـ32.
([8]-) السابق، صـ47.
([9]-) راجع كتابي: تلقي البنيوية في النقد العربي: نقد السرديات نموذجا، دار العلم والايمان بكفر الشيخ، 2009م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان)

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان) بحث: الناقد وائل النجمي يعد مفهوم "وحدة القصيدة" من المفاهيم اله...