السبت، 29 فبراير 2020

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان)

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان)

بحث: الناقد وائل النجمي
يعد مفهوم "وحدة القصيدة" من المفاهيم الهامة التي يرجع الفضل في إثارتها إلي "النقاد الرومانسيين"، علي الرغم مما نـَسَبَهُ إليهم البعض من أنهم لم يفهموه بأبعاده العميقة كما سيجئ. وقد بدأ طرحهم "لوحدة القصيدة" مع تأكيد ((العقاد)) علي أن قصائد ((شوقي)) بها عيب أساسي هو: "التفكك"، وهو العيب الذي عرفه ((العقاد)) بـ: (((...) أن تكون القصيدة مجموعا مبددا من أبيات متفرقة لا تؤلف بينها وحدة غير الوزن والقافية وليست هذه بالوحدة المعنوية الصحيحة))[1]، ثم عقـَّب ((العقاد)) علي عدم ترابط الأبيات في القصيدة، بأن ذلك يجعل من الممكن نقل "البيت" من قصيدة إلي أخري تماثلها في الوزن والقافية، دون حدوث تغير في المعني، وهو ما برهن به علي "الفساد" الذي أصاب "القصيدة العربية" من جراء هذا "التفكك" بعامة؛ لذا طلب ((العقاد)) من القصيدة أن تكون: (((...) عملا فنيا تاما يكمل فيها تصوير خاطر أو خواطر متجانسة كما يكمل التمثال بأعضائه والصورة بأجزائها واللحن الموسيقي بأنغامه بحيث إذا اختلف الوضع أو تغيرت النسبة أخل ذلك بوحدة الصيغة وأفسدها))([2]).
و((العقاد)) في توضيحه هذا يريد من القصيدة "التكامل" في تصوير الخاطر الواحد، ولا بأس بتعدد الخواطر في القصيدة، شريطة أن تكون هذه الخواطر "متجانسة" معا، أما وسيلة هذا "التكامل" فهي الحفاظ علي التناسب بين الأجزاء التي تعالج هذا الخاطر، تماما كالتناسب الموجود بين أجزاء الصورة، أو ألحان الموسيقي، أو أعضاء التمثال، لكن التمثال والصور واللحن الموسيقي ليسا بالكائنات الحية التي يؤثر عليها الخلل في تناسق أجزائها، وإنما الضرر العائد عليها من الخلل في أحد أعضائها، هو تشوهها في أعيننا، دون أن يضر ذلك بها ضررا حقيقيا.
ويبدو أن ((العقاد)) أحَسَّ أن الأمثلة السابقة لا تـُعَبِّر عما يريده من "وحدة القصيدة"؛ لذا أتبع ذلك بقوله: ((فالقصيدة الشعرية كالجسم الحي يقوم كل قسم منها مقام جهاز من أجهزته ولا يغني عنه غيره في موضعه إلا كما تغني الأذن عن العين أو القدم عن الكف أو القلب عن المعدة. أو هي كالبيت المقسم لكل حجرة منه مكانها وفائدته وهندستها. ولا قوام لفن بغير ذلك حتى فنون الهمج المتأبدين فانك تراهم يلائمون بين ألوان الخرز وأقداره في تنسيق عقودهم وحليهم (...)))([3])[ما تحته خط بصورته نفسها في النص]، وقد كـَثـُر الاستشهاد بمقولة ((العقاد)) تلك عند أغلب من تعرضوا له بالدراسة، للتأكيد علي مفهوم " العضوية" عنده، لكن تري هل هذا هو ما يقصده ((العقاد)) من مقولته هذه؟
مفهوم الوحدة العضوية عند جماعة الديوان يكاد يكون يرد المفهوم القديم للقصيدة المترابطة عند القدماء وكأنها ساقية ترد الماء إلى الماء.
إن ما يريده ((العقاد)) من "القصيدة" ــ في هذه المقولة ــ أن تكون أعضاؤها شبيهة بأعضاء "الجسم الحي"، وهو تشبيه أستـُعمِل في الموروث النقدي من قبل، كما عند ((الحاتمي))، إذ يقول: ((مثل القصيدة مثل الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر وباينه في صحة التركيب، كان الجسم ذا عاهة تتخون محاسنه وتعفي معالمه، وقد وجدت حذق المتقدمين وأرباب الصناعة من المحدثين يحترسون في مثل هذه الحال احتراسا يجنبهم شوائب النقصان ويقف بهم علي محجة الإحسان، حتى يقع الاتصال ويؤمن الانفصال، وتأتي القصيدة في تناسب صدورها وأعجازها وانتظام نسيبها بمديحها كالرسالة البليغة، والخطبة الموجزة لا ينفصل جزء منها عن جزء))([4]).
ويري الدكتور ((سيد البحراوي)) أن ((الحاتمي)) ــ والنقاد الكلاسيين الذين شبَّهوا القصيدة بالجسم الحي بعامة ــ، لم يكن فهمهم للجسم الحي علي النحو الذي كشف عنه العلم الحديث من خلال "علم الأعضاء"، من تداخل واندماج وتفاعل في الوظائف المتباينة لهذه الأعضاء معا كما نفهم ذلك نحن الآن؛ وإنما نظرتهم هذه تعتمد أساسا علي التناسق الموجود بين أجزاء الجسم، وهو التناسق الموجود في أي جسم([5])، ومن ثـَمَّ فإن ما يقصدونه في أغلب كلامهم حول هذه القضية، ما يسمي بـ"وحدة الغرض"، وهو ما يقصد به أن يكون هناك إطار عام للقصيدة، تـُنظـَم فيه أبياتها، لاسيما بعد ما أصابها من تزاحم في أغراضها علي نحو ما هو موجود في القصيدة العربية التقليدية.
بينما "وحدة القصيدة" بمفهومها "الرومانسي" شيء آخر، يشرحه الدكتور ((البحراوي)) بقوله: ((تقوم القصيدة الرومانسية علي علاقة التداخل العضوي الحي بين العناصر، بفعل الدور القائد للخيال في إدراك العالم، حيث يكون من الطبيعي أن يدرك الخيال العالم إدراكا غير منطقي، أو متسلسل، أو متجاور(...)))([6])، وذلك لنفور "الرومانسية" من الشكل المنطقي "للوحدة"، كما حدده ((أرسطو)) في المحافظة علي الوحدات الثلاث: وحدة "الزمان" و"المكان" و"الحدث"، وهو ما تعارض معه "الرومانسيون"؛ وأوجدوا لأنفسهم مفهوما آخر للوحدة أتاح لهم السعة التي يريدونها في التأليف، وحرَّرَهم من هذا المفهوم الضيق للوحدة، يقول ((مجدي أحمد توفيق)) عن هذه "الوحدة": ((وكانت محاولة لمقاومة فكرة أرسطو عن الوحدات الثلاث: الزمان، والمكان، والحدث، التي هي شرط في المسرحية الصحيحة، وهي الوحدات التي تمت إزاحتها بوصفها من علاقات التداعي، واستبدل بها فكرة وحدة واحدة كبير [هكذا في النص] تتجاوز العلاقات الميكانيكية، إلي علاقة أخري هي انتماء الأعضاء في كل موحد))([7]).
ومن الواضح أن رؤية ((العقاد)) ومجموعة الديوان بعامة، لم تصل إلي مثل هذا العمق في فهم "التكامل" بين أجزاء القصيدة علي النحو "العضوي" المذكور، وعلي الرغم مما قام به ((العقاد)) من إعادة ترتيب أبيات ((شوقي)) لكي يُدَلـِّل علي تفكك "القصيدة" عنده، إلا أن ما كان يرمي إليه ((العقاد)) هو "وحدة الغرض"، أي أن يكون هناك غرض واحد محَدَّد تنتظم فيه الأبيات، وهو ما يدل عليه تذبذب رؤيته للجسم الحي التي سبق التعليق عليها، و يتضح كذلك في اقتصار نقده لمسرحية "قمبيز" لشوقي علي الجوانب التاريخية واللغوية فقط([8])، مما يعني أنه رضي بأن بها "وحدة " لكونها جاءت تحت إطار واحد محدد مسبقا، هو هذا البناء المسرحي المعنون بـ"قمبيز"، علي الرغم مما بها من تفكك في وحدتها، أشار إليه ((عبد العظيم أنيس))، و((محمود أمين العالم))، عندما رأيا أن جميع روايات ((شوقي)) تفتقد الوحدة الفنية تماما، مما يجعلها في نظرهم قصائد غنائية، وليست مسرحيات شعرية([9]).
وعلي هذا؛ فإن ((خليل مطران)) (1872م-1949م) يبدو أكثر تعمقا لمفهوم الوحدة فيما ذكره في مقدمة ديوانه ــ التي يرد فيها علي من عاب شعره لأنه عصري! ــ يقول فيها: (((...) ولا ينظر قائله إلي جمال البيت المفرد... بل ينظر إلي جمال البيت في ذاته وفي موضعه، وإلي جمال القصيدة في تركيبها وفي ترتيبها وفي تناسق معانيها وتوافقها(...)))([10])، وهذه المقولة تحوي وصفا "للعضوية" في القصيدة علي نحو أفضل وأوضح، مما هو عند ((العقاد)) في تشبيهاته السابقة، لكن ((مطران)) لم يتجاوز ذلك إلي نماذج تطبيقية، ولم يُصِّر علي تأكيد هذا المبدأ من منظور نقدي، علي نحو ما فعل ((العقاد)) في نقده التطبيقي ((لشوقي)) كما هو موجود في ((الديوان))؛ لذا فإن ((العقاد)) هو أحد رواد تعميق مفهوم "وحدة القصيدة"، حتى ولو كان ذلك "المفهوم" قد شهد اضطرابا عنده، وحتى لو أنه لم يستطع فهم "العضوية" في ترابط أجزاء القصيدة علي نحوها الصحيح.
وبهذا تكتمل المحاور الثلاثة الخاصة "بالمرحلة الرومانسية"، ويبقي التنويه إلي ملاحظة أن "المرحلة الرومانسية" سواء في شقيها النظري أو التطبيقي، تـُركـَّز علي جانب "المعني" أو"المضمون" الذي يؤديه العمل الأدبي، وتهمل جانب "الشكل" تماما، وهو اتجاه يخالف ما كانت تركز عليه "المرحلة الإحيائية"، التي تصب كل اهتمامها علي ناحية "الشكل" سواء بامتداحها للكلمة المفردة، أو بتركيزها علي جانب "القواعد"، الذي يتحول معه العمــل الأدبي إلي شاهد "نحوي" أو "بلاغي" من الدرجة الأولي، دون النظر إلي نـجـاحـه في حمل المعني المقصـود. وفي مقابل ذلك لا تركز "المرحلة الرومانسية" علي جانب "المعني" أو "المضمون" فحسب، وإنما تركز علي "معني" و"مضمون" محددَين بأطر نظرية خاصة منبعها مبادئ "الرومانسية"، التي جوهرها "الرؤية الفردية" و "المنظور الذاتي"، والاهتمام بالتعبير عما هو "شعوري" و"وجداني" في الدرجة الأولي.
=========



﴿[1]-﴾ العقاد: ((الديوان في الأدب والنقد))، ، صـ185.
﴿[2]-﴾ السابق، نفسه.
﴿[3]-﴾ السابق، صـ185-186.
﴿[4]-﴾ نقلا عن: عبد العظيم أنيس، ومحمود أمين العالم: ((في الثقافة المصرية))، ط3، دار الثقافة الجديدة، 1989م، القاهرة، صـ50.
﴿[5]-﴾ أنظر: د.سيد البحراوي: ((البحث عن المنهج في النقدالعربي الحديث))، ، صـ26.
﴿[6]-﴾ د.سيد البحراوي: ((البحث عن المنهج في النقدالعربي الحديث))، ،
صـ26-27
﴿[7]-﴾ د.مجدي أحمد توفيق: ((مفاهيم النقد ومصادره عند جماعة الديوان))، ، صـ344.
﴿[8]-﴾ أنظر: د.محمد مندور: ((النقد والنقاد المعاصرون))، ، صـ100.
﴿[9]-﴾ عبد العظيم أنيس، ومحمود أمين العالم: ((في الثقافة المصرية))، مرجع سابق، صـ50.
﴿[10]-﴾ نقلا عن: د.عبد المحسن طه بدر: ((التطور والتجديد في الشعر المصري المعاصر))، ، صـ283.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان)

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان) بحث: الناقد وائل النجمي يعد مفهوم "وحدة القصيدة" من المفاهيم اله...