الأربعاء، 26 فبراير 2020

التعاضد التأويلي في ديوان ناصية الأنثى لـمحمود مغربي.

التعاضد التأويلي  في ديوان ناصية الأنثى لـمحمود مغربي.

الناقد: وائل النجمي
لا يتناسب التخوف الموجود في مقدمة ديوان الشاعر محمود مغربي والمعنون بـ "ناصية الأنثى" والصادر في هذا العام، مع القيمة الأدبية للشاعر صاحب الديوان، ففي تقديم الأستاذ أحمد المريخي يؤكد على التخوف الذي شعر به مغربي من نشره لأدب الخواطر، والشاعر نفسه يلجأ للتبرير عن هذه الكتابة التي هي خالص

ة للنفس، وكل ذلك التبرير سببه السمعة النقدية لأدب الخواطر، وإن كنت أرى أنه من الواجب على الأديب ألا يلتفت لأحكام مسبقة حول الجنس الأدبي الذي يرغب في الكتابة به، ومهما وصف أدبه بأنه خالصا للنفس، فنحن نعلم تماما أنه سيتلاعب بالكلمات، بل من أجل هذا نقرأ له، فنحن نريد منه أن يحلق بنا في سماء المشاعر لنتعرف معه على خبرة جميلة لذيذة، نختزنها في الوجدان وتبقي أثارها حية في فهم الحياة.
والحقيقة أن شاعرنا اتبع أسلوب المخاتلة منذ البداية، في تسميته لديوانه "بناصية الأنثى"، فالقارئ سيميل لفهم الناصية من ناحية التملك، بينما تقبل في معانيها الطريق والاتجاه أيضا، وحتى في توضيحاته عن ذلك، يترك كلا المعنيين قائمين في نفس القارئ، فهو يقول: بين يديكم الآن "ناصية الأنثى"، وحتما هناااااك نواص أخرى سوف أنشرها تباعا، منها ما للجبل، وما للبحر، وما للصحراء"، ويكمل الشاعر سحره اللذيذ في إذابة الفوارق بين المعاني فيتحدث عن أن هذا الديوان هو حديث مع الأنثى، وليس عن الأنثى كما قد يتوقعه البعض، لكن في اعتقادي هو حديث عما انطبع في وجدان الشاعر من ذكريات وحوارات وتفسيرات مع وعن الأنثى، قد أكون مصيبا في ذلك أو مخطئا، لكني أستدل عليه من إحدى قصائد الديوان، وهي قصيدة "ابق لي مضيئا"، وهي القصيدة التي أرى أن لها معان خاصة ظهرت واضحة جلية، تسهل على القارئ فهم باقي المعاني الواردة في الديوان، وهي القصيدة التي أراها توطئة وجدانية للقصيدة التي تليها "صوتك عبر الهاتف"، رغم كبر الأولى وصغر الثانية.
ففي "ابق لي مضيئا" يعتمد الشاعر على تقنيات التساؤل والالتفات ليغرس في النفس توطئة لشاعرية قصيدته من ناحية، ويهيئ لما سيليها من ناحية أخرى، فهي عنده تبدو أهم، ومقاييس الشعر في الأهمية والقيمة غير المقاييس العادية، والمفارقات تبدأ مع القصيدة نفسها، مع التناقض بين المفاجأة والخصوصية، ثم التأكيد على بلوغ التفاصيل، رغم أن الولوج للتفاصيل تم بغتة، لتكون المحصلة "ألف سنبلة ضحوك"، فهل أراد الشاعر أن يصف السنبلة بالضحك، أم أراد أن يكسب صفات السنبلة من إثمار وعطاء واستمرار وبقاء للضحكة، وهو ما يعاضده العدد ألف، لتظل الضحكة الواحدة ترن وتجلل في نفس الشاعر كأنها ألف سنبلة كل سنبلة تغرس حباتها التي تتفجر منها جيلا جديدا وهكذا، خاصة أن الرقم ألف يقترن في اللغة بالاستمرار.
لكن يبدو أن الشاعر قد انتبه لمباشرة هذا المعني، فيرغب بنا أن نصل لأفق أخر في انتقالات سريعة من الشاعرية الخصبة، فيتحدث عن حواجز وهضاب وألف من الأمواج الثائرة، إنه يتوارى منا بعدما عرفنا أنه قد تم اقتحام تفاصيله بضحكة مثمرة، فأراد ألا يظهر بذلك المظهر اللين المستسلم للمحبة، يقول الشاعر:
لماذا أيها الفرح
تخترق حواجزي
تعتلي الهضاب
تروض ألف موجة ثائرة
لماذا؟
لكن الشاعر ربما كان محقا في استسلامه لهذا الترويض الذي غلب ألف موجة ثائرة حاولت أن تقاوم، فهذا الفرح أضاء عتمته، لكنه في الوقت ذاته حيره في تسجيله في سطوره، وهذه الحيرة هي التي جعلت هذه القصيدة في اعتقادي توطئة وتهيئة للتالية، لأن القصيدتين عند قراءتهما على أنهما مترابطتين تتضح الكثير من المعاني التي يستفيد منها القارئ جدا، فرغم استمرار الأولى في تقديم التشبيهات الجميلة من أرواح شفيفة وطغيان لذيذ، وحنو طازج، ودهشة مسائية، إلا أن المصارحة والمكاشفة تأتي في النهاية واضحة مع التناص الصريح باستعارة البيت الشهير لبشار بن برد:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة               والأذن تعشق قبل العين أحيانا
إذن هذه القصيدة هي تعبير عن مقدار الانفعال بصوت المعشوق، ذلك الانفعال الذي أحس الشاعر أننا لن نستطيع أن نقدر قيمته فأراد أن يوضحه لنا من منظوره، لنشعر به كما يشعر به، وليس من قبيل الصدفة من منظوري أن تكون القصيدة التالية " صوتك عبر الهاتف"، وليس من قبيل الصدفة أيضا أن تكون أصغر في حجمها، لأن مع ربطها بما قبلها ستكون أكبر في تأثيرها، فالقصيدة الثانية توثق الحدث وتقيده، والأولى توثق الأثر والانفعال وتوضحه، وفي الحالتين يتم ذلك من منظور نفس شاعرة عاشقة معطاءة قادرة على توصيف المشاعر والانفعالات بقوة، وهي أهم سمات أدب الخواطر.
لكن اللافت أن ظاهرة التعاضد بين قصيدة وأكثر بحسب ما ألمحت إليه من تعاضد معنوي تتكرر في الديوان، فهناك ترابط بين "حديث البستاني"، "كلمات من كتاب العشق" و"إلى ذات الوجه المستدير"، فبعد أن مهد الشاعر لفكرة أن "المرأة بستان"، لها ظلال وورود وثمار، أفاض في وصف الفل والياسمين، ثم في وصف صاحبة البستان من منظور عباد الشمس، وهكذا في استمرارية جميلة من قيم يغلب عليها الوصف بالخصب والنماء والغرس والجمال.


ورغم أن ما ألمحت إليه من ظاهرة الترابط والتعاضد بين القصائد والمعاني المتضمنة هي قراءة خاصة بي للديوان قد يتفق فيها معي البعض أو يختلف حولها، إلى أنني أتساءل هل ستستمر هذه الظاهرة لتصبح هناك ترابطات بين قصائد في هذا الديوان وقصائد أخرى قادمة في دواوين أخرى، أو في نواص أخرى؟ ذلك ما ننتظر أن نعرفه من الشاعر في الدواوين القادمة، وتبقي مقولة أخيرة، أنه ما من أحد - دون غيره - يمتلك ناصية الأنثى، كما أنه ما من أحد - دون غيره - يمتلك ناصية التأويل، فالقراءة النقدية  مفتوحة مرات ومرات أمام من يرغب لهذا الديوان الرائع.

هناك تعليقان (2):

  1. الله الله الله عليك يا د / وائل .............. تحليل نقدي راااااااااااااااااااائع ................ تسلم الايادي

    ردحذف
  2. شاكر حضورك الكريم شاعرنا العظيم عاطف حمدان محمد، اما ان وقت اصدار ديوانك؟ ننتظره بفارغ الصبر يا جميل.

    ردحذف

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان)

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان) بحث: الناقد وائل النجمي يعد مفهوم "وحدة القصيدة" من المفاهيم اله...