الجمعة، 11 أبريل 2014

قراءة نقدية لأربعة دواوين جنوبية:

قراءة نقدية لأربعة دواوين جنوبية:

الناقد/ وائل النجمي
تحتل العامية في هذا الأوان مساحة شاسعة من تأليفات الشعر، فمع انتشار الفضائيات، والمسابقات التليفزيونية التي لم تقم على اختيار نقدي حقيقي، ورغبة الشاعر في أن يكون قريب من الجمهور، وأيضا وجود مشكلات تلقي لدى الجمهور نفسه، أصبحت العامية هي لسان حال المجتمع، وهي لسان حال الكثيرين من الشعراء أيضا، ومن منظور الشعرية البحت فإن الشاعر له مطلق الحرية في اختيار القالب ووسيلة التعبير التي يرغب في إيصال رسالته بها، العبرة بقدرته على تقديم هذه الرسالة بشكل يحقق المتعة الجمالية، ويدفع القارئ إلى الإقبال والاستمتاع بالقول المقدم، ففي النهاية الجمالية وحدها هي ما تحدد قيمة العمل، ولا شك أن شعر العامية منذ بداية الموشحات الأندلسية حتى صلاح جاهين وفؤاد حداد في وقتنا القريب، لا شك أنه لم يحظ بالدراسة الكافية والتنظير النقدي والأكاديمي الذي يسمح بالكشف أكثر عن ظواهره وتصنيفه، وتوفير مصطلحاته اللازمة التي تعين الناقد على تقديم رؤية أكثر عمقا للعامية، وهي المفارقة بين كثرة انتشار العامية، وقلة النقد المقدم تجاهه.
واقترنت العامية منذ البداية حتى التطور الحديث اقترنت كثيرا بالميل لأسلوب الحكم، فغالبا ما يميل الشاعر إلى أن يضف صفات الحكمة والتعجب ورسم الدهشة على سامعه، لكن في اعتقادي مع تطور قصيدة النثر والاتجاهات الحداثية وما بعد الحداثية في الشعر العربي، فإن ذلك يجدر أن يلق بظلاله على العامية المصرية، ولا سيما في عنصر التخييل، الذي يمكن القول أن العامية تلق براحا أكثر في هذا العنصر لاتساع القاموس الدلالي الذي يغترف منه الشاعر، ففي العامية طاقات تعبيرية مرتبطة بروح العصر أكثر مما هو الحال مع الفصحي في تواصلها مع الناس، فهل نجح شعراء دواوينا الأربعة في تحقيق ذلك؟ هل كانت الدواوين العامية المقصودة هنا ناجحة في أن تحفر لنفسها مكانها في منظومة الشعرية العربية؟ أم أنها مجرد تكرار لمقولات توصف واقعا وتعكس مشكلات اجتماعية وشخصية لم تنجح في أن تتخط عقبة الشخصنة؟ فلندع الدراسة هي ما تقرر ذلك.

الديوان الأول: ((حزمة وجع)) لمحمد الريفي:

ما أصعب أن يتوه الإنسان من نفسه، وأن يصل لمرحلة البحث عن روحه، من الباحث ومن المبحوث عنه؟ في اعتقادي الباحث هو الذات المسكونة بهوس الشعر، والمبحوث عنه هو الإنسان في ظل هذه الدنيا الطاحنة، الإنسان أيا كان مكانه وزمانه، الإنسان في علاقته الأزلية بين آدم وحواء؛ لذا ليس مستغربا أن يقول الشاعر في القصيدة التي تعطي الديوان أسمها ((حزمة وجع)):
لساك ماشي تدور
على روحك
في عيون البنات
ويردف ((الريفي)) بتوضيح يبين نوع الأغنية التي يغنيها، فيقول:
بتعزف غنوة للأموات
اللي عايشين جواكرغم ان ف قلبك
حزمة وجع
كيف إذن استطاع الشاعر أن يغني ويعزف رغم أنه ممتلئ الوجع؟ لكن هل تولد الأغاني إلا من خلال الوجع؟ لكن الأموات الساكنين في داخل الشاعر: هل هم الشعراء القدامى؟ هل هم رمز للعادات والتقاليد؟ كل الاحتمالات واردة، وسرعان ما يعود الشاعر للشكوى من عدم قدرة أي بنت على التواصل مع المكنون والمخبوء في صدره. وهل نجح الشاعر نفسه في التوصل لمكنون صدره؟ ولماذا بنت بالذات هي من يتوجب عليها أن تتوصل للمكنون؟ أعتقد أن هدف الشاعر كان تحميل نصه بطاقة غزل ربما لم يكن محلها في النص هنا، أو قل أن المقام كان مهيئ لأن تكون القصيدة رغم عاميتها صاحبة أفق وجدانية إنسانية رحبة، فالناحية الغزلية هنا تقلل من انطلاقها، ورغم ذلك يواصل الشاعر تلاعبه بالمعنى العاطفي عندما يقول:
لساها نفسك خضرة
بس ما فيش بنت قادرة
توصل للمكنون
وتسحب م العيون
حكلة الحزن
اللي مسودة وشك
لكن يبدو أن الشاعر أدرك أن اختزال وجيعة الروح المشار إليها في قصيدته وأنه بحاجة للانطلاق لأفق إنساني أكثر رحابة؛ فاختار التناص الكوني مع الطير، متخيلا نفسه ذلك القادر على السمو والارتفاع، وهي من صفات الطيور، لكن من صفاتها أيضا عدم الاستقرار، خاصة عندا لا تجد لنفسها غصنا ترتكن إليه، يقول الشاعر:
كل ما تحط على غصن
يهشك
لساك بتحلم بالجنة
وست الحسن
وفي عيون البنات ميت
ومرة أخرى نعود للسؤال: لماذا الفتيات بالذات؟ لما لا يجعل الشاعر من قصيدته ملحمة كونية كبيرة تتناص مع حياة البشر جميعا، بدل من العودة واختزال المعنى بالعلاقة العاطفية؟ وأي البنات يقصد: البنات/ العاشقات، البنات/الزوجة؟ وهل نحن بإزاء صورة الدنجوان مقلوبة، ذلك الذي يحاول كل يوم أن يتواصل مع البنات لكنه أبدا لا تلق محاولاته القبول؟ وهل هذه التجربة بذاتها تستحق كل هذه المرارة؟ يقول الشاعر:
كل ليلة بترجع مهزوم
ناقع روحك في جروحك
ريقك لبان دكر
عن أي نوع من أنواع الهزيمة بالضبط يتحدث؟ كان يمكن أن نعزيها لهزيمة الإنسان في مواجهة واقعه، أو حتى لهزيمة المحب في التواصل مع معشوقته، لكن الهزيمة في عدم القدرة مع التواصل مع البنات أيا كانوا، وعدم القدرة على ايجاد تلك الفتاة التي تستطيع أن تمسح دمعة الحزن هما معنيان متناقضان، فهل الشاعر لا يستطيع التواصل مع أي فتاة، أم أنه يتواصل لكن ما يتواصل معه غير كافي؟ ولما لم يستغل أفق الكونية والبشرية التي كانت مهيأة للوصول بها بأفق القصيدة؟
الغريب في مجمل قصائد ((الريفي)) في ديوانه ((حزمة وجع)) أنك ما إن تشعر بانطلاق الوجدان، وانفتاح المعنى في التأويل للوصول لأفق رحبة حتى تجد نفسك تعود من جديد لانغلاق المعنى ناحية أفق عدم القدرة على التواصل مع المحبوب، بل عدم القدرة على ايجاد محبوبة من أساسه ينفتح لها وجدان الشاعر، رغم توق الشاعر لوجود مثل هذه المحبوبة إلا أنه يظل كالطلسم المستغلق، كل البنات حائرات على اكتشاف لغز هذا الطلسم، يقول الشاعر:
بعد البنات ما تروح في النوم
تفتح الألبوم
تبقي مكان كل فارس
مرة قيس .. جميل
مرة أبو الفوارس
وها هو يعود من جديد لمزاوجة معاني الحب بمعاني اعم دون انتصار لأحدهما على الأخر، ولنا أن نسأل: هل كان قيس أو جميل فوارس؟ ألم يكونوا مثالا لحال تملك العشق ووصول الإنسان إلى مرحلة الجنون؟ ألم يصل الأمر مع قيس بأن تعوذ أحد التابعين من العشق بعدما شاهد حالة قيس في الكعبة عندما دعا على نفسه بألا يبرأ من عشق ليلى؟ لكن الوضع عند الريفي معكوس تماما، فهو يميل إلى مفهوم الدنجوانية أكثر ما يميل إلى مفهوم العشق والهيام، يقول:
يا تقلع خشونة الصوت
وتلبس الكلمة ألف توب
وتمنع قلبك يدوب
يا تتجدعن وتموت
بس من غير صوت.
وكأن العبرة عنده بمدى قدرة الرجل على أن يكون له اسهامه في دنيا العقش والهوى، وفي نموذج أخر من ديوانه، قصيدته ((المهاود))، يقول فيها:
لما تكون ماشي
ف عز الحر
او بتعافر
لجل القوت
ومفيش سحابة تمر
صدقني دا أهون
من انك تكون
هدف منصوب
للشمس
إذن يرسم الشاعر موقف مسرحي كامل لإنسان يسير في عز الحر وهو يبحث عن قوته، ثم يصنع حالة من المفاضلة بين ذلك المطحون في لقمة العيش، والأخر الذي هو هدف للشمس، ولا نعلم هل الشمس هنا هي شمس حقيقية أم شمس رمزية؟ لكن سياق النص سيستبعد أفق الترميز في الشمس، ليضعنا في مواجهة المهن التي تعمل في مواجهة الشمس كالمعمار ومهندسين البترول وغيرهم، إلا أن الشاعر يقصد أولئك الذين يبيعون بعض الأشياء البسيطة في حر الشمس، والحقيقة الصورة هنا تتذبذب، والمفاضلة تخف وطئة معناها، ما الفرق الجوهري بين من يعمل في جو حار وهو كادح في عمله، وبين من يعمل في الشمس مباشرة، لا شك أن من يعمل في الشمس مباشرة أكثر تضررا، لكن الصورة كانت بحاجة لمفارقة أكثر بعدا حتى تتضح، وأيضا اختيار البائع الجائل لم يكن موفقا فبإمكانه أن يبيع تحت غطاء من الشمس، إن منطق العمل الداخلي بحاجة لإعادة النظر من قبل الشاعر.
يقول:
وما بين لحظة والتانية
يعدي عليك واحد
أو واحدة تنكش همك
تحرق دمك
تفاصل في العرق
تشكك في الميزان
وفي صورة مقلوبة لما يحدث في السوق من انهزام المشتري غالبا أمام البائع الذي دائما لدي ألف حيلة وحيلة لاستغلال المشتري، بائع الريفي يصيبه الضعف والوهن، فقلبه معلق ومفتوح لمن يبيع لهم، ليختار أن ينهزم أمامهم:
ولان قلبك
متعودش يبيع
غصبن عنك
بتلاقي نفسك
مهاود.
إن الرؤية لدى ((محمد الريفي)) لم تحسم أمرها بعد، ولا يزال تتنازعه العاطفة الشخصية والهم العام، ولا مانع من ذلك إن كان النص يستطيع حسم الصراع لصالح الجمالية الشعرية، لكن ذلك يتنازع النص، ويخلخل تلقي المعنى، فما إن تشعر بأنك على وشك القبض بمعنى محدد، حتى تنسحب لمعنى آخر، ما إن تشعر بأنك تتناول العام حتى تجد نفسك في الخاص، ومن الخاص للعام وهكذا، إذن ما تزال القدرات التعبيرية بحاجة لتوليد طاقات دلالية ومعنوية أكثر من المقدم لدينا في هذا الديوان من وجهة نظري.

الديوان الثاني: ((خايف أرد الباب)) للشاعر: محمد يوسف حامد

لا يخرج ((محمد يوسف حامد)) من أسر الخطابة والمباشرة والتقريرية في ديوان، إذ يبدو أن فخ الحديث عن البشر باعتباره مبررا كافيا بمفرده دون باقي عناصر الشعرية من صور وخيال وتراكيب، ذلك ما هيمن على تفكيره في اعداده لديوانه، وإن كان الشاعر يبدأ قصائده بصورة مركبة تخييلية رائعة لكنه سرعانا ما ينقلب عليها في مشكلات متعلقة بمنطق النص الذي رسمه لنفسه من ناحية، والتكرار المعنوي مع اختلاف اللفظ من ناحية أخرى، فمثلا في قصيدته ((لم الشراع)) نجده يقول:
لم الشراع
الريح ماتت من زمان
ومفيش أمل
نوصل سلام
الشط ضاع
فالإيحاءات التي يولدها الشاعر بفكرة الابحار تحيلنا للحياة نفسها، تلخيصا للإنسان الذي يبحر في بحر الحياة، الإبحار الذي عدة الإنسان فيه شراع يفرده في انتظار أن تجره الريح لتوصله لمراد، ولنا أن نتخيل حال صاحب الشراع إذا سكن الريح؟ يظل ساعتها الإنسان عالقا في مكانه، غير قادر على الحركة يمينا أو يسار.
ولكن المشكلة أن الشاعر سرعان ما ينقلب على الصورة الجميلة المقدمة والتي تستدعي إحالات شعورية ومعنوية ضخمة، فبدلا من المضي مع مشاعر هذا الانسان البائس الذي يقف لا يعرف كيف يتقدم في ظل تلاطم أمواج بحر الحياة، وبالتالي هو في حزن حاضر لا يحتاج لاستقدام حزنه وتذكره، لأن تذكر الحزن يحتاج نسيانه، ولم يقدم لنا الشاعر مبرر نسيانه، ليقول الشاعر:
وترسم الصورة القديمة
في عنينا تنبت دموع
لحظة رجوع الحزن
ف ضلوعي
القط دموعي وادحر
تحت الشراع
وبينما ترسخت في وجداننا صورة المياه الراكدة، والرياح الغائبة، يفاجئنا الشاعر باستحضار الخريف المليء بالرياح الكثيرة، يقول:
تاهت من زمن
لما حدفتنا المواسم
للخريف.
وإذا انتقلنا لقصيدة ((همسة عينيكي الكدابين)) فسنتفاجأ بالفارق بين المقدمة والتهيئة التي تعطيها مقدمة القصيدة عندما يقول الشاعر:
وأنا قاعد  ع الدكة
بشوفك
بتملي في الطرحة كسوفك
وانتي رايحة تجيبي
من السوق الحمام
لكن سرعان ما نتفاجأ بالانتقالة بين جو السوق والنهار والزحمة، لنصبح في جوف الليل، لماذا هذه الانتقالة المفاجأة؟ يقول الشاعر:
وتردي ع الليل السلام
ولا يقبلوش
واقعد سنة
واستنى انك ترجعي
وتعدي منيا السنين
وأشيب
إذن بينما تسلم تلك الفتاة على الليل في كل يوم يضيع عمر الراوي في الانتظار، ورغم أنه قدم لنا بداية القصيدة بايحاء الاعتياد على سلوك المحبوبة لدرجة أنه يعرف نوع السلعة التي ستشتريها – أعني الحمام – من قبل أن تذهب للسوق، إذا بنا نفاجأ بشكواه المرة من عدم رؤيته مرة أخرى لمحبوبته، كيف إن يمكن فهم هذا التضاد؟
لا يوجد أبدا إجابات في النص حول التضارب الدلالي، بل سننتقل من نقطة لأخرى دون إجابات شافية، لنعود من جديد لصورة لا نستطيع تبيان ملامحها الكلية من خلال تفاصيلها الجزئية، انظر للمقطع التالي من قول الشاعر:
وتغيب عن الأرض السما
وارجع أعيد البسملة
وسورة يس
والطرحة لسة ببتكسف
فوق الجبين؟
ما الإشارة التي يمكن أن نفهمها من استمرار كسوف الطرحة؟ هل شاهد الراوي محبوبته مرى أخرى؟ أم أنه يحكي عن خيالاته؟ وما علاقة ذلك بغياب السما عن الأرض، لا نعلم أيا من ذلك من ثنايا النص، بيد أن قفزة سريعة ستغير المعنى المقدم تماما وتحول مسار التلقي من علاقة عاشق بمعشوقته، لإنسان يرثى حال الدنيا بأكملها، من معاني التعبير الذاتي إلى معاني الملحمة الكونية، يقول الشاعر:
ضاعت ملامح دكتي
وملامح الطفل اللي
كان قاعد هنا
بيشابي على ريحة الكسوف
الضلمة جية من الكهوف
يدمج الشاعر بين معاني العشق ومعاني انزياح العمر، واستمرار رغبة الشاعر في البحث عن تلك الفتاة المكسوفة، لكن الانزياح هنا تحول من الحديث عن الفتاة، إلى الحديث عن الكسوف نفسه، كإشارة ضمنية لتغيرات في البنية التركيبية للخلق التعاملات، فهل يمكن في هذا الزمن ايجاد هذا الكسوف الذي كان يراه الشاعر – طبقا لنصه – في صباه؟ والمزاوجة بين الهم الخاص إلى العام إلى أن يصبح الوطن هو المضمر، ذلك المعنى المتضافر من المقطع التالي:
وعينيا لسه بتنظر همسة
عينيكي الكدابين
أيام عديتي ونا
قاعد هنا
بتسلى مع ضل الوطن
وأغسل عينيا من العفق
اللي حدفاها الشاشات
لا شك أن الشاعر هنا في مجمل أعمال ديوانه يبدو في كثير من قصائده قادرا على القبض على السياق والصور، ولكن في أحيان أخرى كانت تضيع منه المقدرة، ليصبح هو المنساق وراء النص الذي واضح أنه يحاول مزاوجة العام في الخاص والخاص في العام، فيوفق في بعض المقاطع ويخفق في أخرى، بل أحيانا يقدم صور لا يمكن فهمها في السياق المقدمة فيه، وعند النظر لها في ذاتها تبدو ملهمة واضحة، عند ضمها  لسياقها الأكبر فإن الصورة الكلية تبدو غير واضحة الرؤية، هل سيستطيع الشاعر في المرة القادمة امتلاك ناصية كلا من: الحكاية والصورة معا؟

الديوان الثالث: ملناش ثمن ليحيى جوهر

شعرة فاصلة بين الشعر والشاعرية، بين النظم والتأثير الانفعالي في المتلقي، بين الزجل الذي يميل إلى الإكثار من السرد والقص وتقديم التفصيلات، وبين التخييل والصورة الشاعرية التي تحلق بأفق المتلقي، وهذه الشعرة يبدو أنها تفلت أحيانا من ((يحيى جوهر)) في ديوانه ((ملناش ثمن))، خاصة في ظل الموضوعات ذات الطابع الجماهيري الشعبي التي يفضل كثيرا ان يكتب فيها، فكأن حنجرته الحيدة تحولت لجوقة من المغنيين يحاول كل مغني فيها أن يعبر عن هموم ومشكلات الناس، ويغيب صوت الشاعر الأساسي نفسه بوصفه قائدا لهذه الجوقة على الأقل، وإن كان يجب ألا ينس أنه صاحب السياق والموقف والتعبير، ولسنا هنا في عملية مفاضلة بين الذاتية والغيرية، وإنما نوجه النظر إلى ضرورة ظهور البصمة الشخصية للشاعر، ضرورة عدم اكتفائي بنقل الأحداث كما هي، فعليه أن يسبغها برية خاصة تسهم في اكساب النص شاعريته.
في قصيدة ((ملناش ثمن)) يقول الشاعر:
احنا ملناش ثمن                               ما احنا ملايين من البشر
وبدون عمل وسط الحجاة والتراب            زي الليمون وسط الشجر
ورغم محاولة الشاعر إيجاد تقارب بين شعر العامية والشعر العامودي الفصيح بقولبة الكلام في شكل القصيدة العمودية، إلا أن القصيدة تشهد عدة اخفاقات في الوزن والايقاع والقافية أحيانا، لكن ما أرغب في التوقف إزائه عدم مناسبة الصورة والتمثيل الذي يتحدث فيه الشاعر عن تمثيل كثرة أعداد البشر وسط الحجارة والتراب، بالليمون وسط الشجر، وصورة الليمون وسط الشجر لا تستدعي التأثير النفسي للناس الملقاة بين الحجارة والتراب لا تجد عملا أو مراعاة؟
لا أبالغ إن قلت أن الإسهاب والتقريرية دفعت الشاعر في الكثير من الأحيان إلى تناسي مبدأ التكثيف، ليقع في مشكلة الإسهاب والتكرار في المرادف المعنوي، فمثلا في قوله:
وتيتموا اطفال كتير                    ومئات من الأسر
ماذا أضافت ((مئات الأسر)) لكثرة الأطفال الذين تيتموا؟ أليس المعنى هو نفسه؟ الصورة هنا تفلت من يد الشاعر لصالح اغراء الحكي والاستطراد الذين وقع فيهما الشاعر، لكنه في بعض الأبيات النادرة يظهر قدرة على تملك التعبير، يقول:
عبارة هلكانة وقديمة                          للغلابة تكون تابوت
تصاريح غلط .. شهادات غلط                وبدولارات وبدون فحوص
واعمل نعوش جو اسفن                       وغطي بالرموش على ناس لصوص
وبغض النظر عن تشابه تحول السفينة لتابوت والواردة في عجز البيت الأول من المقطع السابق، مع ((عمل نعوش)) الواردة في صدر البيت الثالث، إلا أن هذه الحزمة من الأبيات أقل الأبيات التي تظهر فيها مشكلة اضطراد الترادف، ولعل الترادف يصل ذروته عندما يقول الشاعر:
ايه الفق بينهم وبين شارون           وبين صهاينة أشقياء
فهل يصنف الشاعر شارون على أنه نوعية أخرى غير الصهاينة حتى يعقد نويعن من المقارنة بين الحكومة التي تقتل بالإهمال والفساد أولادها، والحكومة التي تقتل بالسلاح والعتاد أبرياء للحفاظ على أولادها، بيد أننا كعرب نحن المقتولون في كلا الحالتين.
في قصيدة ((حوار ساخن بين الحكومة والمواطن)) اختار الشاعر لنفسه مهمة شاقة، فهو اختار أن يجري حوارا يستنطق فيه كلا من ((الحكومة))، لينوب عنها شاعرنا في القصيدة رغم تعدد مؤسساتها، ووجهات نظرها المختلفة، وأيضا يستنطق ((المواطن)) كممثل أيضا لكل فئات المواطنين المطحونين الذي لا يجدون عملا أو خدمات أو رعاية، والمهمة الشاقة في هذه الفكرة أنه من السهل جدا بلورتها في مقالة أو أي فن من فنون النثر، لكن عند دمجها في القالب الشعري فإن عبء التخييل سيصبح صعبا، فالشعر تفكير بالصور أساسا، كل ذلك يجعلنا ننطلق صوب النص ونحن نسأل أنفسنا: ما التقنيات الشعرية والتخيلية والتصويرية التي سيتبعها الشاعر للتغلب على خطابية موضوعه الذي اختطه لنفسه؟
في مواجهة هذا التوجس سنتفاجأ بأن طاقة التخييل في النص الشعري الطويل إلى حد كبير لا تستطيع أن تكسر خدة الخطابية والتقريرية بين ((الحكومة)) و((المواطن))، ليتحول الأمر إلى سجال عقلي أكثر منه إلى طاقة من الابداع والتخييل، فقد كان مطلوب من الشاعر أن يعيد صياغة هذا السجال بقالب من المجازات والصور، تماما كما شاهدنا في محاورات سابقة وتاريخية في الشعر العالمي، كمحاورا أفلاطون أو أبيقور، أو حتى في شكاوى الفلاح الفصيح الذي كان يفند في كل شكوا حجة أو ردا جائه من قبل، فمثلا تقول الحكومة عند ((يحيى جوهر))
أنا اللي دخلت المجاري
ونورت الشوارع والحواري
وأنشأت المصانع والكباري
ووفرت التعليم بالمجاني
وبعد كل ده ترميني بالشكاوي
يبني الشاعر منطقية قصيدته عبر تقديم الحجة ونقض الحجة فيما يليها، وبدلا من أن يحاول الوصول للفكرة عن طريق جوانبها التصويرية، يعتمد فقط على مقدار صدى الفكرة لدى الجمهور والمتلقي، أما القار الخبير فقد كان يبحث عن الفكرة متضافرة بالصورة، أما القارئ العادي فهو يبحث عن تعاطف المؤلف مع هموم المواطن، ويبدو أن الشاعر انحاز للقارئ الذي ستتغير نظرته للمواقف لو تحسنت الأمور قليلا، بينما الطاقة الابداعية لو وضعها في نصه لكان ضمانا لتحول النص من بيان شعبي عن هموم ومشكلات إلى رؤية مبدع تتجاوز الواقع والمكان والزمان لتصبح متعة ابداعية في أي مكان وأي زمان، ذلك ما نتمنى أن ينجح في تحقيقه شاعرنا في أعمال قادمة.

الديوان الرابع: ((بنص عمري أعيش)) للشاعر: ((أحمد بكري العنفصي))

من المبادئ الهامة للجملة الشعرية عنصر التكثيف، فبعكس الفنون النثرية التي تقوم على الإسهاب والوصف كالرواية مثلا، تقوم العبارة الشعرية على الاقتضاب مع القدرة على توليد أكبر كم ممكن من المعاني من أقل الألفاظ والكلمات، وهي السمة التي تلاحظ غيابها في ديوان ((بنص عمري باعيش)) للشاعر ((أحمد بكري العنفصي)) فمنذ بداية الديوان مع قصيدتع التي حمل الديوان عنوانها نجده يقول:
كل ذرة
صبر ما لوش أخر
وأحزان في القب بتداخر
ماشية ف عروقي
حرقة قلبي عليك
ما ليها أول من آخر
دي .. العشرة مش بالساهل
دنا .. أستاهل
لقد أغرت الموسيقى والتلاعب اللفظي الشاعر في الانسياق وراء الجناس: (أخر ـ بتداخر ـ أول من أخر) ثم (الساهل ـ استاهل) وفي زحمة الإيقاع والموسيقى تناسى الشاعر المعاني المتولدة داخليا، فالشعر العامي والحر بعامة يبني شاعريته بشكل أساسي عن طريق روعة الصورة، وليس سلاسة الصياغة وسهولة العبارة، والصورة هنا مقارنة باسهاب الوصف بحاجة ماسة إلى إعادة الصياغة من جديد.
وبالمنطق نفسه يستمر الشاعر في قصيدته تغريه امتلاكه لقدرات السجح والجناس، وتفلت الصورة والفكرة منه، يقول:
دا انا
عمري ضايع ف النسبة
رفعت وخسيت كشيت
احضني مرة كمان البد فيا
خدرني .. فين رجليه
خفف عني جمر الشوق
ورغم ما كان يمكن للنص أن يصل  إليه عن طريق جذور الفكرة التي طرحها الشاعر حول مخاطبة المحبوب وامنيات اللقيا، إلا أن الصورة التي تتشكل سرعان ما نجد أنها تضعي منا، ويصل الأمر ذروته عندما يقول:
اعزقني وبعزقني ف دمك
خلطني اشركني ف همك
كرمشين وسربني وسربني
وجوه ضلوعك رسبني
تتزاحم هنا الألفاظ المتلاحقة التي تعمل على تشتيت القارئ والقصيدة، وتضعف من تواصله مع النص، تجعل من الصعب عليه متابعة الصورة الكلية المتشكلة والمعني العميق الذي يخاطب الوجدان، ولا نجد في مقابل الألفاظ المتداخلة التي تضغط على الأذن، معاني مكافأة في القوة تفتح الوجدان للتلقي.
وربما تكون قصيدة ((طلع النهار)) من القصائد التي حاول فيها الشاعر أن يقيم توازن بين الصورة والجرس اللفظي الموسيقي، يقول:
تتدارى في جفون الزمن
تسكن سراديب المحن
خيوط الأحزان متعطرة بالحسك
مترشرشة بوهج النار
نايمة في جوف اللزج
وتتضح هنا قدرة الشاعر على توظيف النص، وعلى تقديم الصورة الشعرية المتراكبة المعبرة عن قهر الزمن، فتراكيب مثل: (جفون الزمن، سراديب المحن، خيوط الاحزان، متعطرة بالحسك) كلها تعبر عن قدرات هائلة من التعبير، كما أنها تخاطب التداعي النفسي الشعوري للقارئ حول تجسد مقدار الألم الذي يشعر به القارئ في جو القصيدة، لكن سرعان ما تشعر أنك تسير في طريق ممهدة وفجأة تجد نفسك تصطدم بحجر ثقيل مع قوله: (جوف اللزج))، أين موقعها من الصورة الكلية؟ ما المقصود بها بالضبط؟ هل هي بقوة ما سبق تراكيب تصويرية؟ كيف يمكن فهمها في مجمل النص؟ هذا مثال لما يقع فيه الشاعر من حالة أشبه بحالات التفاوت بين المقدرة وحسن التوظيف، بين الفكرة والسياق اللفظي.
في هذه القصيدة يمتاز التنغيم الصوتي بالتناغم مقارنة بقصائد أخرى، فيها يعتمد الشاعر على سلاسة الإيقاع الداخلي وليس الخارجي، يقول الشاعر:
في انتظار الاختيار
لابسة ثياب الهزم
مشاوير انتحار
دموع الخوف والانهيار
تحفر في قبر الصمت
ده .. بير .. مقادير
وليست الميزة هنا في التكثيف الدلالي وهدوء الجرس الموسيقي فحسب، بل أيضا في قدرة الشاعر على إدماج الصور الجزئية التي يقدمها عبر صورة كلية لا تخالف في مجملها الحالة النفسية والشعورية، وإنما تعزز ذلك، فمع المضي مع السطر الشعري الأول نتخيل أنثى تنتظر أن تختار، وهذا يحيلنا لا شك لمرارة الاختيار وصعوبة تحمل نتائجه ناهيك عن عدم جودة البدائل أحيانا، وأحيانا يضطر المرء للاختيار مرغما، كل ذلك مفتوح في السطر الأول، ثم نمضي مع الثانية لنكتسب معنى جديد به صورة ((ثياب الهزم)) فيعمل الذهن تلقائيا على ربط الصورة بسابقتها ليضيف لهذه الأنثى التي عليها أن تختار اشفاق ان تكون مهزومة، مما يوحي بأنها ليست حرة تماما في الاختيار، وهكذا مع كل مضي كل سطر هو معنى في ذاته، ويضيف معنى جديد لسابقه.
ورغم ذلك لا يستطيع الشاعر أن يتغلب على ميله للمحسنات اللفظية التي تغالبه قدرته على استخدامها، ليعود من جديد فيقدم تلاعب لفظي لكنه في هذه المرة يقلل من قيمة الصورة التي كان يمكن لها أن تتشكل، يقول الشاعر:
ريا أمشير
كما المناشير
تعب ولهب
رعب وقلق
أعوذ برب الفلق
بيعصرني الخوف والقلق
النقاط التي يقدمها الشاعر في محاولة بناء الصورة الكلية هنا تضغط على وعي القاري، ويمكن لنا ان نتخيل لو كان النص متحرر من (تعب ولهب، قلق وفلق ثم القلق)، لو استمر الشاعر يصاعد حالته وصورته التي قدمها ومهد لها لكي تكون متداخلة مع تركيب كلي لمجمل القصيدة، كيف سيكون الحال على تأثيرها على المتلقي؟
ومع ختام القصيدة نقع أمام مجانية مفرطة من التناص مع الموروث الديني باستدعاء قصيدة ((طلع البدر علينا)) تغنيها الحواري للنهار الطالع، الصورة هنا تقدم بدون أية منطقية للتوظيف، ما العلاقة بين النهار الطالع ودخول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم للمدينة المنورة؟ هل هناك معاني متكلفة كان الشاعر يريد أن يقولها لكنه لم ينجح في التمهيد لها، كأن نقول مثلا أن التمسك بتعاليم النبي الكريم هو السبيل لطلوع الفجر، وبزوغ النهار للتخلص من كل ما سبق أن تقدم؟ لكن المشكلة أن السياق ليس فيه ما يوحي بذلك، لماذا كرر الشاعر هذا المقطع الأخير مرتين؟ أسئلة تبقى بدون إجابة، وطالما ظلت بدون إجابة فإن إخفاقا ما يصيب دلالة النص.
إذن تتأكد ظاهرة أن الشاعر يعيش حالة من الصراع بين المحسنات والتناغم اللفظي، والصورة الشعرية، أحيانا ينتصر لصالح التلاعب اللفظي والتنغيم الايقاعي، وأحيانا ينتصر لصالح الصورة الشعرية، وساعة ما يتم الانتصار للصورة الشعرية يكون على حساب المحسنات اللفظية، رغم أن جوهر العملية الابداعية يقوم على توظيف كل منهما لصالح الأخر، يقول الشاعر في قصيدة ((نشيد العنكبوت)):
قد ايه من عمري
فات ومات
والباقي اللي مش جي
عشش يا عنكبوت
جوه قلب الوطن
وأعزف وغني
نشيد العنكبوت
نشيد الموت
وكور .. جناحك
وانسج خيوطك
وعيش وهيش
سنلاحظ على المدى المقدم أنه ساعة ما تتعمق الفكرة تقل المحسنات اللفظية: عشش يا عنكبوت/ جوه قلب الوطن/ واعزف وغني) وسرعان ما يدرك الشاعر أن الإيقاع بحاجة ماسة إلى تدارك، أو كأنه لا يقنع بأن يعتمد على الفكرة والصورة وحدها، فيوعد من جديد لتكرار العنكبوت مرة أخر فيكتب: واعزف وغني/ نشيد العنكبوت) هل أضافت جديد؟ لكن لكي يستقيم التوازن اللفظي مع ما يليها (نشيد العنكبوت/ نشيد الموت) وإذا ما اختزلنا الأسطر الشعرية التي يشير فيها الشاعر إلى فكرة استلاب الوطن ليصبح المقطع: (عشش يا عنكبوت/ وغني نشيد العنكبوت) إذن هناك مشكلة في رسم الصورة، وتشكيل العبارة، فتكرار العنكبوت لم يكن له مبرر، سوى تفضيل الشاعر للتناغم الصوتي أكثر من تفضيله لبناء الصورة الشعرية، سواء الصورة في ذاتها، أو الصورة المركبة على مدى النص؛ لذا حاول بعديها الشاعر أن يشعر القارئ أنه يقدم جديد فأردف (نشيد العنكبوت/ نشيد الموت) دون أن يكون أيضا للموت هنا اضافة حقيقية تسهم في تأكيد المعنى الشعري.

إذن لا بد من أن يقوم الشاعر أحمد بكري العنفصي الذي يقدم لنا دلائل قدرته على امتلاك الصورة والسياق، عليه ن يصل لمرحلة التوافق بينهما، وعليه أن يستخدم قدراته في التشكيل اللفظي على تقديم تشكيلات مناظرة على مستوى الصورة والتخييل، ذلك ما سيعزز من قيمة التواصل مع النص المقدم.
===========

نشرت ضمن كتاب المؤتمر الأدبي الأول لإقليم جنوب الصعيد الثقافي ... أسوان يونيو 2013 صـ211 إلى صـ230

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان)

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان) بحث: الناقد وائل النجمي يعد مفهوم "وحدة القصيدة" من المفاهيم اله...