الجمعة، 11 أبريل 2014

الوعي المتوهم في مجموعة (بريود لمحمد متولي)

الوعي المتوهم في مجموعة (بريود لمحمد متولي(

الناقد والباحث: وائل النجمي
عند مطالعة مجموعة (بريود – صمت انثوي صاخب) لمؤلفها (محمد متولي)[[1]]، علينا أن نعترف بأننا أمام كتابة مختلفة بشكل مختلف، تأخذ الإنسان للأعماق، لكنها كتابة بسيطة، تستدرج القارئ للقراءة، دون أن يشعر، لقد نجح الكاتب في أن يمزج بين حداثية الموضوع (أفق النسوية)، وتبسيط وسائل السرد نفسها، لم يتابع الكاتب الحداثة الروائية في تقنياتها، لم يقدم كتابة ملغزة أو معقدة أو مستكشفة أو رمزية، وإنما كتابة صريحة ولماحة، وربما هي وجهة نظر تحاول أن تتواصل مع القارئ الذي يقبع بعيدا عن ميراث التطور الروائي المدجج بالحيل والتقنيات الروائية الضخمة، خاصة مع السيل الضخم من الدراما الفضائية التي اصبحت بلا شك منافسا حقيقيا لأي قراءة روائية، لكنني أخش أن وجهة نظر الناقد قد تختلف عن وجهة نظر القارئ العادي، فأسلوب الكتابة المباشر بالتأكيد سيحول دون استكناه العمق، سيقف الراوي في الكثير من الأحيان على مشارف فتح النوافذ دون أن ينتظر تبصر الضوء ونتائج مجيء النهار، كما أخش أيضا أن تكون مغازلة القارئ فاتحة لباب التنازل عن ميراث التطور الحداثي وما بعده الذي قطعت فيه الرواية العربية والقصة والأقصوصة أفق رحبة يصعب التراجع عنها الآن.
من ناحية أخرى علينا أن نتعامل بحذر عندما يتم تقديم راوي يتحدث مستترا خلف أنثى بينما المؤلف ذكر، ففي مثل هذه الحالة ثنائية المؤلف/الراوي هي احدى الثنائيات الملغزة، هل من يتحدث هو أنثى حقيقية؟ أقصد هل الوعي الذي يتم تقديمه هو وعي انثوي جوهري؟ أم محاولة تمثيل لوعي أنثوي؟ إن نقاء الوعي وجوهريته هنا محل تساؤل، فيمكن أن يكون ما يتم تقديمه محاولة اقرار ما يجب أن تشعر به الأنثى وفق وجهة نظر الكاتب/الراوي! ومن ثم فنحن لسنا أمام نص نسوي، بقدر ما نحن أمام نص ذكوري، يعتقد بأن الأنثى غير قادرة عن الدفاع عن قضاياها، ومن ثم يحاول النص الذكوري فتح نافذة على الوعي الانثوي مستضيفا إياها بقلم ذكوري يحاول أن يقدم نفسه على أنه نسوي، وإذا ما اعتمدنا تعريفات (لوسيان جولدمان) حول الوعي القائم والوعي الممكن، فإنه يحق لنا بامتياز أن نسائل الكاتب/الراوي عن وعيه الذي يحاول اقامته هنا، وعن الأبعاد التي يحاول تمثلها، بل يحق لنا أن نتشكك حول ما إذا كانت هذه المحاولة هي دفاع عن الأنثوية، أم هي اختزال أخر وجور أخر على الأنثوية بمحاولة توهم أنها غير قادرة على الدفاع عن قضاياها في ظل محرمات المجتمع، وفي ظل صعوبة مواجهة المجتمع ومنظومته القيمية/ الذكورية، باختصار الوعي المقدم هنا هل وعي حقيقي/ أم وعي متوهم؟
نقطة أخرى أيضا من الإشكالات التي تثيرها المجموعة القصصية، وهي ثنائية اللغة العربية/الانجليزية، فاستعارة مفردات انجليزية للعنونة القصصية جاءت بتوظيف فني أحيانا، ظهر عندما استعار المؤلف اللفظة الانجليزية Period [[2]] للدلالة على الدورة الشهرية، بدلا من مقابلها العربي، كتشخيص لما تستخدمه الفتيات والسيدات للهروب من المقابل العربي من هذه الكلمة، التي تثير لديهم العديد من المشاعر والانفعالات والقيود الاجتماعية/الدينية أيضا، ومن ثم كانت الاستعارة الانجليزية هنا موفقة، وبغير توظيف فني أحيانا أخرى، ففي Concert و Hypotension و Invisible، لم يكن استدعاء اللغة الانجليزية موظفا فنيا، فأولا ليس هناك داعي للهرب من لفظة (حفل موسيقي) للكونسيرت، خاصة أن الكونسيرت تثير في الثقافة العربية الحفلات السيمفونية الاوبرالية المعروفة، بينما كان نوع الحفلة التي ذهبت له الفتاة أشبه بحفلات الكاريوكي، فماذا أضافت هذه اللفظة الانجليزية للوعي والتأويل؟ واستخدام هيبوتينشن بدلا من انخفاض ضغط الدم، وانفيزبل بدلا من غير مرئي، لا اعتقد أنها كانت موظفة فنيا في المجموعة.
ويبدو أن علينا أن نبدأ من عنونة المجموعة، من اختيار (بريود) لها عنوانا، خاصة أن العنوان يقف كاملا كموازي للعمل الفني بأكمله، ورغم تنوع القضايا التي تم تناولها في المجموعة، إلا أن الكاتب آثر تسمية المجموعة كلها باسم القصة الثامنة منها، ورغم أن العنوان في حد ذاته يعد صادما للمنظومة القيمية الاجتماعية، ومن ثم يصبح النص مقدما ذاته على أنه أحد مقتحمات التابو، إلا التأمل في تحليل القصة يجد أن الكتابة تقف عند حد الاستكشاف، عند حد التلميح دون التعريض، فرغم أن الاستدعاء للدورة الشهرية سيفتح في أذهان القراء العديد من القضايا، والتي منها: اختلاف ألم الدورة الشهرية بين المتزوجة وغير المتزوجة – ومن ثم كان هناك أفق أمام النص لتناول قضايا العنوسة، وقضايا: النظرة الاجتماعية والدينية للدورة الشهرية، وقضايا: الأعراض الفسيولوجية وما تتعرض له السيدة أو الفتاة خاصة إن كانت في محيط عمل عند مفاجأة الدورة الشهرية لها أحيانا دون سابق قيد أو انذار، وما يسببه الحرج بعامة من الحديث أو التلميح لهذا الموضوع، أيضا بما أن الكاتب اختار التعرض لسيدة متزوجة تفاجئها الدورة الشهرية الأولى بعد زفافهم، فهناك أيضا باب التعجل على الانجاب، ففي موروثات الريف والمجتمعات الصعيدية وغيرها، تحمل الدورة الشهرية الأولى بجانب ألام عدم الانتظام ألام أخرى، وهي رغبة الأهل في سرعة الانجاب، وتقاس في بعض المجتمعات الفحولة والأنوثة نفسها بحدوث الحمل من أول يوم زفاف، كل هذه أفق كان يمكن فتح الباب لها، لكن الباب اقتصر على أمر أخر، هو أيضا ليس أقل أهمية مما تم ذكره، لكنني  أرى أن تناوله لم يكن عميقا بالدرجة الكافية.
إن التيمة المميزة للمجموعة هي محاولة استكناه ما يدور بداخل الأنثى من حوارات، ويطول المونولوج الداخلي لأبطال المجموعة، وفي أغلبها مستنكرة للرجال الذين لم يستطيعوا أن يفهموا ما يدور بداخل نسائهم، تقول الساردة: ((تصمت للحظات ثم تُضيء عيناك ببريق عجيب، تُحيط رأسي بذراعك وتُقبِّل جبهتي المبلَّلة بقطرات من العرق البارد، لا تبدو على وجهك أي مظاهر  للاشمئزاز، رغم أنك تتقزز من تقبيل أي وجه يكسوه العرق. تنهض مُسرعًا، ثم أسمع صوتك يهتف قائلا “أيوة يا ماما، الحمد لله، بقول لك إيمان عندها البِريود وتعبانة أعمل لها إيه؟” تصمُت برهةً ثم تقول: “عندها مغص جامد ووشها أصفر وشكلها تعبان، لا يا ماما المسكنات بتتعبها زيادة” تصمت ثانيةً، ثم أسمع صوتك مُدافعًا عني بقوة “حرام عليكي يا ماما دي تعبانة بجد”. والدتك تكرهني. أعرف أنها تكرهني، لكني أحبها لأنها أنجبتك، جعلتك رجلا جميلا رقيقًا، أحبها لأنها صنعتك، لو كنت ولدي لبغضت تلك المرأة التي ستأخذك مني.))[[3]]

لقد كان الأفق المشيد هنا هو صراع الزوجة/الأم، صراع الفهم/عدم الفهم لطبيعة الدورة الشهرية لدى الزوج/الرجال، صراع القبول/الرفض للمرأة وهي في مرحلة من مراحل حياتها الطبيعية، تلك المرحلة التي كانت في وقت من الأوقات مقدسة في تاريخ البشرية، ففي القرون الأولى كان ينظر لمرحلة الدورة الشهرية على أنها مرحلة لها خصوصيتها لدورها في الانجاب واستمرار الحياة، لكن مع المضي أكثر، ومع تحول الآلهة الوثنية بالتدريج إلى الذكورية بدلا من الأنثوية، بدأ النظر للدورة الشهرية نظرة الاشمئزاز – وهي نظرة تربطها الغائية والنفعية من الانثى باعتبارها أداة للشهوة والانجاب فقط – وبما أنها في هذه الفترة لا يمكن الاستفادة منها في أي من ذلك جاءت هذه النظرة التي لها أيضا سياق اجتماعي، وميراث طويل، وتنته القصة عند حدود قيام الزوج بعمل مشروب من القرفة والنعناع للزوجة، وبأسلوب لغة شفاف يعيد أذهاننا للكتابة الرومانسية التي اختفت منذ عهود في السردية العربية، للتأكيد على رغبة التلاحم والتواصل بين الأنثى والرجل.
ولن يختلف الحال كثيرا في اللغة والاسلوب في بقية المجموعة، إذ يمكنني أن اقسم موضوعات المجموعات بين أربعة أقسام رئيسية، الأول منها هو الأنثى التي تبحث عن محبوبها ولا تجده، أو تحلم أن تجده، أو لا تعرف بالضبط إن كانت وجدته أم لا، وقد ظهر ذلك في أقصوصة (كونسيرت) صـ11، التي تذهب البطلة لحفلة غنائية، وبينما يتحدث المغني ذا الأوصاف الطفولية والجمالية المبهرة، عن محبوبة مضت، يقابلها فجأة ويحتضنها وكأنها هي محبوبته التي مضت، ثم يتركها ويمضي لتغرق هي في صراع نفسي كيف سمحت له بأن يحضنها بهذا القدر، وكذلك الحال أيضا في أقصوصة (صمت الجدران) صـ19 التي تشهد على فتاة كانت تعيش حياتها بين هذا وذاك، لكنها مرة واحدة أصبحت لرجل واحد، تكتفي فقط بمجرد السهر من أجله والنظر له طوال الليل لتأمل جماله، وتغرق هي نفسها في حيرتها عن سر تأثرها بهذا الرجل دون غيره. و(لعنة) صـ75، والتي لا تعرف البطلة إن كانت تحب محبوبها أو هي متعلقة به فقط أم ماذا؟
الثاني: البعد الثقافي، والسياج المفروض على الأنثى الذي قد ينجح بعض الرجال في فك طلاسمه، في الوقت الذي يصر فيه المجتمع على استمرارية هذا السياج، ويفشل الكثير من الرجال في فهم هذه الطلاسم ومثال ذلك: (بريود) صـ51 وقد تقدم التعليق عليها، و(لوح ثلج) صـ27 والتي تحاول الأنثى ان تعبر عن مشاعرها الجياشة لمحبوبها لكن خجلها يمنعها في الوقت الذي يتسمر الزوج يتهمها ببرود المشاعر، وكذلك الأمر في (لما يحصل نصيب) صـ39 والتي تتحدث عن محاولة فتاة الصبر على حماقة رجل متقدم لخطوبتها، ويخوض معها نقاشا مريرا لكنها كافحت لكي تمر الجلسة بسلام دون أية صدامات، وأيضا (ضغط منخفض) صـ31 وهو مشهد لسيدة في سيارة مع زوجها لكنه لا يشعر بها اطلاقا وهي في حالة اختناق دائم، وكانت تتمنى أن يشعر باحتياجها لفتح زجاج السيارة. و(نقطة على الطريق)صـ35  التي تغرق فيه الأنثى بشعور جارف من الحب والهيام بالرجل الذي أمامها، دون أن يصل أيا من ذلك إلى الرجل الذي يجلس أمامها ولا يعرف بما في داخلها، و(شباك قديم) صـ 93والتي تتحدث عن فتاة كانت واثقة في أن محبوبها سيعود، لكنه عاد بعد فوات الأوان جدا.
الثالث: الصدام المجتمعي، ومعاناة الوحدة وعدم القدرة على التواصل سواء في وجود الرجل أو في غيابه، مثال ذلك: (بقايا حلم) صـ 79والتي تعاني من تعب الأعصاب المستمر من


المحبوب، مما يجعلها تقع في صدام مجتمعي بنسيانها تغطية شعرها في خروجها، و(أمنية) صـ57 التي تعاني فيه البطلة من وحدتها ومن بقائها منفردة دون رجل لها، و(شرفة نصف مغلقة) صـ73 التي تحمل معاني من الرمزية قليلا حول الجسد المثقل وتعلق البطلة برجل توحي القصة أنه مفارق الحياة، بينما ما يزال هناك أمام الشرفة من يرغب في التواصل معها، و(نافذتان) صـ 61 وهي عن زوجين يعيشان معا، لكن الزوجة قررت أن يكون كلا منهما منفصلا عن الاخر، يعطيان صورة بالنجاح والحياة السعيدة، لكنهما في النهاية نافذتان لا يطلان على بعضهما البعض، كل منهما تفتح على شيء أخر، و(غير مرأي) صـ 69 والتي فيها تتساءل البطلة لماذا تبدو وكأنها غير موجودة للرجل الذي يفضل عليها اجنبية. و(صورة) صـ23 التي تحلم فيه احدى الفتيات بقص شعرها تشبها بالممثلة ميج رايان والتي رغم اعجاب الجميع بهذه الممثلة إلا أنهم يرفضون أن تمارس هذه الفتاة حريتها في أن تقوم بقص شعرها، وعندما تأتي لها الفرصة لفعل ذلك تتراجع في أخر لحظة.
الرابع: الأمومة، وقضايا الأمومة متمثلة في الفقد، وإن كان مؤقتا بالذهاب الأول للروضة في قصة (اليوم الأول) صـ 65 أو الفقد الدائم أقصوصة (قلب فارغ) صـ83 للأم التي مات ابنها في حرب اكتوبر، والتي تم تزييل القصة بمقولة السادات عن الأيام التي سيتم فيها حكي ما حدث في الحرب، بينما يحتوى الأم شعور متناقض مختلف عن ذلك تماما، تتمنى فيه لو عاد ابنها لبطنها ثانية.
وما بين مضي الحياة، والأمومة، والمشاعر المتضاربة، ومضي السنين، تقف أقصوصة (سفينة بلا شراع)صـ87 والتي تحكي عن جدة يأتي لها احفادها برسائل من البحر، كانت قد رمتها من قبل في حكايات أخرى، وزمن أخر وبمشاعر مختلفة، ليتركها احفادها تغرق في البحث عن ذاتها من بين ذكرياتها.
هذه التنويعة من المشاعر والعواطف والأحاسيس، المروية جميعها من وجهة نظر أنثوية، عبر مجموعة قصصية تحاول أن تفتح الأفق ربما لمشكلات المرأة، أو ربما لمشكلات عدم تناول المرأة، لكنها في كل الأحوال تنبه إلى أن هناك حالة من عدم التواصل بين الأنثى والرجل، وبين الأنثى والمجتمع، هل كانت هذه المجموعة تريد أن تكون الجسر الذي يحدث على أساسه الوسيط؟ ربما، لكن الأكيد أن محمد متولي اكتشف أفق جديدة للكتابة، وعالم رحب جدا، لكننا ما نزال بانتظار عمق الرؤية وحبكة أكثر استلهاما وأوسع أفاقا مما تم تقديمه في هذه المجموعة.



[1] - صادرة عن دار الربيع العربي، وقد حققت أرقاما قياسية – وفقا لدار النشر، ولقياسات جوجل ريدر – في مبيعات معرض القاهرة الدولي للكتاب.
[2] - من الطريف أنه حتى التسمية الانجليزية Period هي أيضا تحمل نوعا من الكناية، وليست  تصريحية عن الدورة الشهرية، فهي تعني الفترة أو المدة، ولا تعني الدورة الشهرية إلا اصطلاحيا، وبهذا تقف اللغة الانجليزية مثل العربية بدون تسمية حقيقية لهذا الحدث وإنما بتسمية أحد عناصره وجوانبه، بعكس تصريحية اللغة الإنجليزية في مواضع أخرى.
[3] - مجموعة بريود: صـ52-53.



هناك تعليقان (2):

  1. اتفق مع رؤيتك النقدية تماما , و برغم قوة المشاعر التى عبر عنها الكاتب من خلال قصصه و برغم انها مشاعر حقيقية غير متوهمة على الاطلاق الا انها ليست كاملة و اجد نفسى فى حيرة هل هذه هى مشاعر المرأة النابعة من صوت بداخلها ام ان هذه مشاعر المرأة فى الاطار الذى فرضه جزء متفتح من المجتمعالشعرى و هو انها ترتقى من مجرد انها ادة الى انها مشاعر و احاسيس رقيقة لا تملكها سوى المراة , حقيقتا لا يكفينى الحديث عن المشاعر طالما المرأة الانسان مهمشة

    ردحذف
    الردود
    1. شاكر حضورك واطلالتك الجميلة، ونضال المرأة وانفتاح أفق الثقافة هو وحده الكفيل بأن تفرض المرأة لغتها الخاصة حول شعورها ومشاعرها.

      حذف

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان)

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان) بحث: الناقد وائل النجمي يعد مفهوم "وحدة القصيدة" من المفاهيم اله...