الثلاثاء، 22 أبريل 2014

تجريب الكتابة، والتشكل السردي قراءة في مجموعة: طعم البوسة: لمحمد على ابراهيم

تجريب الكتابة، والتشكل السردي قراءة في مجموعة: طعم البوسة: لمحمد على ابراهيم

الناقد: وائل النجمي
يمكن تقسيم مجموعة قصص «طعم البوسة» إلى قسمين، الأول تجريبي قام فيه الكاتب بمحاولة استنفاد طاقته في التجريب وفي ايجاد شكل جديد للكتابة، وقسم أخر أشبه ببوح السر وهمس الخاطر الذي يقوم فيه الكاتب بتقديم مشاعره وانفعالاته بالاعتماد على استعادة الذكريات، وتقديم الأحداث القديمة بوصفها احداث جديدة تحدث الأن، ولعلني لا أبالغ عندما اقول ان الثقل الأساسي للتجريب في المجموعة في أقصوصة «طعم البوسة» - والتي تستمد المجموعة منها اسمها - سواء في التشكيل الفضائي على ورقة الكتابة، أو في تقديم الأحداث والشخصيات، وأيضا من حيث اللغة، يبدأ الراوي استهلال الأقصوصة بقوله: «شفتاها؛ يا الجمر المشتعل، يا أحمر قد علاها فدفن أسرارها .. شفتاها طريتان، وبريئتان وتنفجران فجورا.
شفتاي؛ يا فقرا توحد والرغبة، انهار من الجوع والعشق والحرمان والأحلام ..»
إن البداية بالتقابل بين شفتيها، وشفتيه، والبدء بشفتيها قبل شفتيه، كل تلك المفارقات تجعلنا ندخل في جو الأقصوصة الممهد لنا بأنه مقارنة بين «هي»: الأنوثة/ «هو» الذكورة، إلا أننا سرعان ما يتم سحبنا من هذا الجو الكوني حول الأنوثة والذكورة، ليتم وضعنا في إطار حفل زفاف ممتلئ بالزغاريد وبالبطون المتخمة بعشاء الزفاف، إلا أن التوظيف اللغوي لجملة: «رعشة ما تظللنا و(ربع الخمرة) بدأ يضيع في بحر شفتيها (...)» لم يكن مناسبا لهذه الملحمة الكونية التي يضعنا في ظلالها الراوي.
لكننا نتلق "تغريبا" أخر مع إعلان الراوي: «كان "جاك دوسون" يتأهب للدخول في جنة شفتي "روز" وهي ذاهبة إلى جحيم شفتيه.» ليجعلنا ذلك نتساءل: من المقصود بهذه المسميات؟ هل هما من ذُكِرَا من قبل؟ وهذه النقلة بين ضمير الراوي «أنا» و «هم» ثم استخدام لغة القياس بالقبل: «وذهبت في سرعة إلى مقعد يبعد عنها بمقدار عشرين قبلة» ثم ايقاف السرد لتقديم اعلان استهلالي وفي داخل مربع نصي على النحو التالي:




.....................
ولا يقصد هنا الاساءة إلى الرأسماليين أو تمجيد الاشتراكيين؛ لم تذكر كتب السماء أن الليبرالي أو الماركسي سيذهب أحدهما أو كلامها إلى الجحيم.
مع خالص تحياتي لأمن الدولة.
المرسل/ أنا الطيب

 
 



 يبذل هنا الكاتب أقصى طاقات التجريب من أجل تقديم نص متفلت من ظلمة الواقع وسطوته، وفي الوقت نفسه محمل برسالة الحب والرؤية الكونية، دون أن ينس انتقاد الواقع المرير، وهي رؤية اثقلت كاهل الكتابة، وربما لو لم يتم ذكر التحية لأمن الدولة في النص التوضيحي لكان أفضل، وأيضا تلقيب الراوي/الكاتب لنفسه بأنه الطيب ففي ذلك مخاتلة كبيرة، إن ما يريد أن يرسله الراوي إلى المتلقي عليه أن يتركه مشفرا فمحاولات فك الشفرة من قبل الراوي المتضمن في النص قد تؤدي إلى وصول رسالة غير المقصودة على الإطلاق، خاصة عندما يعود الراوي من جديد في رسالة أخرى ليلقب نفسه بأنا/الشرير.
مع العودة للنص السردي بعد النص المقتطع من السرد سنكتشف أنه يتم تحويلنا لمجرى اخر بعيد عن ما تم التهيئة إليه، وفضلا عن استخدام لغة تحلق في سماء الشاعرية دون مبرر سردي، إلا أننا نعود لنقطة البداية – استرجاع غير منطقي – لما قبل لحظة قبلة الزفاف إلى يوم التقدم والعشرة ألاف جنيه شبكة.
وما إن نمض متحسسين مقدار مخاتلة النص حتى نُفاجأ بتوقف السرد مرة ثانية لتقديم نص اعلاني مرة أخرى، نص يتحدث عن التعرية وما المانع من التعرية، ثم الخلط بين التعرية وقادة المرحلة، والتحدث عن المرسل: أنا/الشرير، وما إن نعود للسرد حتى نجد حوار حول غرق السفينة، إن ظاهرة اختيار أحد الأعمال السينمائية وجعلها في خلفية السرد – حيث المقصود هنا فيلم تيتانيك وقصة الحب التي صورت سينمائيا في الفيلم الشهير – مع ملاحظة أن الكاتب هنا يصنع مفارقة بين هذا الحب السينمائي، والحب في الواقع المصري، فالأول غرق في مواجهة البحر مع بقاء الحب خالصا في القلوب، والثاني: يغرق في مواجهة الشبكة والمهر والطلبات، لكن عين الكاتب كانت مفتوحة أكثر على الخلفية السينمائية بشكل أكبر عما فعله من توصيف للواقع الذي يتحدث عنه ويعيش فيه، لكنه لم ينس في زحمة هذا الحديث الإشارة إلى الواقع السياسي، كل هذه الطاقة التجريبية في قصة قصيرة، مثقلة بلغة شاعرة محلقة، لا أنكر أن هذا الخليط - الشاعري الرومانسي الواقعي السياسي - جعل المتلقي في حالة اشبه بحالة الحلم/اليقظة وكأننا نسمع موسيقى ساحرة غير قادرين على الفكاك منها، لكنها في الوقت ذاته تترك بداخلنا غموضا غريبا ومشاعر متناقضة.
ومن ناحية أخرى فإنه - في  اعتقادي - أن خير ممثل في المجموعة للقسم الآخر: قسم البوح بالسر والهمس واستعادة الذكريات هو أقصوصة: «هذيان حار جدا»، والتي تبدأ بالمقطع التالي: «العتبة قزاز والسلم نايلو في نايلو"، اسمع قلبي وشوف دقاته . المدمس .. النهاردة عيد يعني سيما وفتة .."
لا أتذكر سوى بعض الأغاني الرائعة و الرديئة و..
"هو كل يوم فول .. تأكل وتنكر .. ناسي الفتة واللحمة اللي سفحتهم في العيد .. جاتك بلوة واد مفجوع زي أبوك إلهي لا يرجعه .."
بهذه الاستعادة من الذاكرة يقدم لنا الراوي الأقصوصة، وواضح أن الذاكرة الفنية من سينما وراديو تحتل مساحة كبيرة في مجمل أعمال «محمد علي إبراهيم»، إلا أنه بحيلته الفنية نجح في أن يحول طاقة التأويل لمعنى أخر: «واد مفجوع زي أبوك إلهي لا يرجعه»، هنا نلمس التلاعب السردي الذي يقدم لنا الشيء، ثم سرعان ما يحيلنا لمفهوم أخر ورؤية أخرى، وطوال المضي في قراء العمل تشعر أن الرؤية والانفعال تتغير مرات ومرات عبر كلمة أو كلمات تقلب المعنى تماما، مما يعني أن مستوى التجريب السردي والتفجير اللغوي حاضر وموجود في المستوى الثاني من القصص لكنني اعتقد انه بصورة أقل من سابقه، أو على الأقل بصورة أكثر عقلانية ومنطقية.
وفي تكثيف سردي رائع يختصر الراوي لحظات وفاة والده وزواج أمه من رجل أخر، ويمضي من ذلك سريعا إلى مشهد السينما – مرة أخرى – ليتوقف أمام مشهد «زبيدة ثروت» في حضن «عبد الحليم حافظ»، وبعكس ما كان الحال مع فيلم تيتانك لا يذكر الراوي الأسماء الخاصة بالشخصيات في العمل الدرامي وإنما يذكر أسماء الممثلين أنفسهم، ثم يقفز أيضا سريعا لقلق أمه عندما تقوم بغسل ملابسه في إشارة واضحة للاحتلام.
اعجبني وصفه لجدته بأنها ذات العشرين ربيعا والستين خريفا، مقارنة رائعة بين السن وشباب القلب، ثم مقارنة تتلو ذلك من الجدة بين الأب وزوج الأم، وتقرير زيارة الابن لمعرض زوج الأب، وفي الخلفية نجد الأغاني تأتي من جديد: السح ادح امبو .. ادي الواد لأبوه، ومفارقة دالة في اختيار اسم كوميدي لزوج الأم والذي سماه الراوي بـ «ميمي هريدي بن عكرمة»، لتبدأ عملية المساومة من زوج الأم تجاه الابن على أمل أن يتخلص الابن من القيم والاخلاقيات التي زرعها في داخله أبوه.
ثم وفي حالة من الفنتازيا يدخل الراوي في غيبوبة ليرى والده وهو متقلد سيفه وفي نغمة تأنيب للابن الذي تخل عن القيم التي أورثها إياه يخاطبه مخيرا اياه حول السيف المشهر الذي يتقلده الوالد، ويسأل الابن هل يلزمه هذا السيف أم لا؟ وبينما الاب في هذه الجدية الصارمة يحلق طيف «زبيدة ثروت» شاغلا مخيلة الابن، مما يدلل بوضوح على عدم قدرة الابن على حسم الصراع الداخلي الذي يواجهه، وقيامه بالهروب النفسي لاتجاه اخر يشعر فيه فقط بذكورته وبما يمكن أن يشعر فيه بالسعادة دون أن يقوم بما هو مطلوب منه من جهد مجتمعي.
سرعان أيضا ما يقوم الكاتب بعمل نقلة أخرى للمشهد بإدخال العسكر وهم يطاردونه بعدما قرر الرحيل من يد الأطباء، رحيل يتخذ طابع القيام والتحدي للواقع، لكننا سرعان ما نكتشف أنه رحيل للعالم الأخر، رحيل للموت، إنه الانسحاب والانهزام  إنه الرحيل نهائيا من الحياة، ليجد الراوي كلا من: أبيه، وعبد الحليم، وزبيدة ثروت في انتظاره، ومع التلاعب بسيميائية الكتابة يقطع كلمة "ينتظرونني" وكأنها تخرج مع أنفاس الراوي الأخيرة.

ما بين النوعين من الحكي على أن أشير لنوع ثالث، نوع يتخذ لنفسه طابع الملحمة لكنها ملحمة سريعة مكثفة موجزة، من ذلك أقصوصة «ما قاله الولد لا»، وتقسيمها لبعض المقاطع التي تؤكد على هرب الراوي إلى مخزن الهمس والاحساس والمشاعر، إنها أقرب إلى الرؤية الفكرية حول الحياة، لكنها رؤية فكرية مقدمة في أسلوب سردي رائع، يتخللها بعض الأبيات الشعرية التي تؤكد على رؤية محددة، وسمة الكتابة التجريب وتفجير الدلالات بحيث تولد معاني مختلطة، يتلقاها القارئ معا شاعرا بأنه ولج لعالم الكاتب وأنه أسير هذه الانفعالات دون قدرة على الهرب منها، ودون القدرة على تشكيل رؤية محددة واضحة، ليجد نفسه مضطرا لتشكيل رؤيته الخاصة أيضا، الرؤية التي قد تكون متناقضة لكنها في النهاية هي نظرتنا للحياة، أليست الحياة هي ذلك التناقض الذي نقبل به، فنغمض أعيننا عن الكثير من أجل أن نحيا فيها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان)

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان) بحث: الناقد وائل النجمي يعد مفهوم "وحدة القصيدة" من المفاهيم اله...