الثلاثاء، 22 أبريل 2014

قراءة في ديوان موسيقي وحيد لبهاء الدين رمضان

قراءة في ديوان موسيقي وحيد لبهاء الدين رمضان

الناقد والباحث: وائل النجمي
تشعر عند قراءتك لديوان ((موسيقي وحيد)) لـبهاء الدين رمضان أنك أمام حالة خاصة من حالات التجربة الشعورية، يخاطب الشاعر فيها كلا من "وعي"، و "لا وعي" القارئ، صانعا من اللغة نسيجا خاصًا، يغزل من خلالها الأفكار التي رغب في تقديمها، ثم يصنع من هذا النسيج لوحة ذات ملمح مؤثر؛ لذا لم يكن عجيبا أن يستحضر الشاعر قصيدة ((مارجوت شاربنرج)) المتأثرة بلوحة ((الصرخة)) للنرويجي ((أدفار مونش))، خاصة وأن الشاعر اعتمد أيضا على مخاطبة العين في التشكل البصري للكتابة – بحسب ما سيجيء – ومن ثم فإننا علينا أن ننتبه إلى أننا أمام حالة فريدة من حالات استخدام التقنيات وتشكيل الصور والصياغات والألفاظ في هذا الديوان الذي يحتاج إلى قراءة متعمقة يخوضها القارئ ليس بعقله فحسب، وإنما بوجدانه أيضا، وسيجد في الديوان المتعة لكليهما.
وإذا ما تعرضنا لبعض هذه الظواهر في المجموعة الأولى من الديوان التي يسميها الشاعر ((ناي في صحراء الوطن))، وهي المكونة من 6 قصائد، في القصيدة الأولى منها المعنونة بـ((همجي)) يقدم صورة مقلوبة لذلك الوطن الذي يكتب عن الشاعر، ذلك الشاعر الذي يلخص حال الفقر والجدب الذي يعيشه، والذي ضاق به ذرعا؛ فأصبح يهدد بإحراق أطفاله الجوعى؛ لذا يشعر الراوي بالوطن وهو يبكي عليه، ولا يجد الشاعر حلا سوى بث حزنه وبكائه للنيل، أما على مستوى التشكيل اللغوي في القصيدة فإن القصيدة تنبني عبر التقابل بين نقيضين، وقد تعمد الشاعر تقديم الكتلة النصية للشعر بزاوية ما بين أعلى وأسفل لتظهر نصين متقابلين بينهما فاصل هو بياض الصفحة، كتوضيح للأحوال المقلوبة التي نعيشها، ونلمس في القصيدة قلة استخدام المحسنات اللفظية، فالموسيقى تنبني عن طريق الجرس الموسيقي الداخلي والسلاسة اللفظية أكثر مما يعتمد على جرس موسيقي خارجي على الغرار التقليدي.
أما في قصيدة ((قاطع طريق)) فإنها تلخيص لعمر بحاله لرجل بلغ الـ 40 عاما، مسيرة حياة كاملة لا تأتي فيها الحياة طيعة، ولا يجد فيها الفرح و السعادة إلا عبر لحظات مسروقة خاطفة، ورغم العدة التي أعدها الشاعر للحياة من سلاح ولثام وحرائق أحيانا؛ إلا أنه رغم كل ذلك يعيش مهزوما فهو يشعر بأنه يعيش وحيدا، معزولا عن الدنيا وبهجتها وصخبها في كهوف سحيقة، إنها حيادة بدون شيء، بدون نساء أو ماء أو ماعز، وإن كانت اشارة الماعز إشارة مجانية القيمة لا توضح المراد من قصد الكاتب، إلا أن المعنى الاجمالي يدور حول اكتشاف أن الحياة التي عاشها الإنسان ما هي إلا ضحية من ضحايا ذلك العالم الذي نحيا فيه.
ولم يفت الشاعر استخدام التشكل البصري لهذه القصيدة في النص الكتابي بما يجعل النص يرسم منحنى يسير في حركة تقوس من أعلى لأسفل والعكس صحيح أيضا، معززا بذلك لدى القارئ شعور اهتزاز القيمة، وفكرة أرجحة الحياة، فمثلما أن الفكرة المسيطرة على القصائد هي فكرة بلوغ سن الأربعين فإن الخط المعطى للمقطع ((أربعون عاما)) قام الشاعر بتشكيله بخط مختلف عن باقي أنواع الخطوط، وأما التشكيل الموسيقي فإنه لا يختلف في التقنية عن القصيدة السابقة من اعتماد الشاعر على الايقاع الداخلي أكثر مما يعتمد على الوزن بالأسلوب التقليدي.
أما القصيدة الثالثة ((ارق)) فهي تحمل مراوغة بين العنوان، وانسحاب الشاعر من القصيدة للنوم تاركا القارئ في مواجهة الأرق، كأنه يطلب من كل فرد أن يواجه مصدر ازعاجه بنفسه، وبرغم أن القصيدة بها بعض الدلالات المتعلقة بالاحالات العاطفية كالحديث عن الغرفة الممتلئة بالدببة، ومعروف أن الدببة هي رمز الهدايا بين المحبين، إلا أن الشاعر سرعان ما راح يغازل مساءه الطازج، وانسحب من القصيدة، والحقيقة أني لا أجد وصف المساء بالطازج مفهوما لي، وتغيب عني الدلالة التي يقصدها الشاعر من جراء ذلك، وإن كان الشاعر نجح في التشكيل الكتابي في ترك أثر الذبذبة التي يحيلنا إليها بين الأرق والنوم في تقطيع القصيدة عندما يكتبها على النحو التالي: تصبح
                                        على
                                                خير
أما في قصيدة ((الغائب)) فإن العنوان يحيلنا إلى مجهول سيحاول العقل أن يفك رموز هذا المجهول، سيحاول أن يعرف من المقصود بالغائب؟ وفي زحمة التساؤل يبهرنا الشاعر ببداية قصيدته حول بحديثه عن النسوة اللاتي هجرن سريره في إشارة للعلاقات الغرامية، لكنها علاقات بدون خصوبة – ويبقى معنى الخصوبة هنا غامضا – هل هي خصوبة الاجاب؟ أم خصوبة الاشباع العاطفي؟ أم خصوبة الحياة بعامة؟ - كلها إحالات مفتوحة في المعنى وتقبلها تشكيلات المعنى في القصيدة، وفي مقابل ذلك يلمح لنا الشاعر بحالة إخصاء رمزية أو حقيقية لكنها لا شك ورائها معاني شعورية أكثر منها حقيقية حول الإنسان في مواجهة الحياة.
ويمضي الشاعر في أسلوبه السلس ساحبا وعي المتلقي تجاه النساء، ثم تجاه الشخصية التي يريد التحدث عنها – ذلك الغائب – الذي ربما لم يولد بعد، أو ربما هي تناص مع فكرة المخلص، فكرة المنقذ، أو أيا كانت الفكرة فإنها كناية عن تلك القيم والأشياء التي أصبحنا نفتقدها في حياتنا، والتي ستظل غائبة عنا رغم شدة اشتياقنا لها.
أما في قصيدة ((انهزام)) فإننا نلاحظ على الشاعر أنه أحيانا يقع في مشكلة مجانية الصورة والتشكيل، فيقدم تعبيرات تستغلق دلالتها على القارئ، فيقف أمامها المتلقي حائرا، ماذا يقصد الشاعر بقوله:
وأجهز صلصالاً
من حمإ  مسنون
مدهشاً كالعادة
لم يبلغ سن الطحلب
فما المقصود بالحمأ المسنون؟ وإذا اعتبرناها اشارة للإنسان كتناص مع الأية الكريمة، فكيف نفهم تركيب مثل ((سن الطحلب))، ما الاشارة أو العلامة الدالة هنا؟ ما المقصود بالضبط؟ هل يخدم هذا التشكيل المعنى؟ أسئلة مفتوحة لا نجد لها إجابة قاطعة لأن التشكيل الدلالي للمعنى غير قابل للقبض والإمساك به.
أما في قصيدة ((انشطار)) فإن حالة من التناقض التي تعيشها البشرية جميعها هي المهيمنة على النص، حالة لا تناسب على الإطلاق ما وصلت إليه البشرية من وعي وتفكير، مما يجعل سؤالا مثل: كيف نحن معشر البشر بكل ما وصلنا إليه من معرفة نقبل بما يحدث ونراه ونشاهده في أرض الواقع؟ كيف نقبل بالسرقة والنهب والسلب في الحياة؟ كيف ما زلنا لم نحسم هذا الصراع بين الخير والشر؟ أين العقل من هذا اللامعقول المهيمن على الحياة البشرية؟ وكأن الشاعر يتمنى لو أنه تمكن من القضاء على هذا النصف غير الخير وغير المعقول ليقسمه إربا إربا، أو كأنه يريد أن يقسم النصف الخير في كل البشر ليجل منه نصفا أخر يحل محل النصف الشرير، وهو حلم بعيد المنال.
وعند الانتقال للمجموعة الثانية من مجموعة قصائد الديوان، والتي تحمل عنوان: ((القصائد الأطلسية))، فإن القصيدة المعنونة بـ((قصائد الفجيعية)) ))، يقول فيها الشاعر:
الفجيعة في القلب
هي نفسها
الغابات في فصل الصيف ....
والصعيد في الصيف ...
تفتت العظام
وتتلبس الساعات
يعرب إذن الشاعر عن ((الفجعية))، عن الوجع، ذلك ما يتغنى به هنا، فهو يشعر بِحَرِّ الغابات في فصل الصيف، أو قل الصعيد هو غابات الصيف الحار، سواء بشجره ونباتاته المزدهرة، أو بكونه مكانا نائيا، بعيد عن العمران البشري، مليء بالمشكلات، وذلك ما يتأكد من استخدام الشاعر ألفاظ مثل ((تفتت العظام، وتلبس الساعات))، إذن نحن بإزاء تلاعب دلالي، وهو ما يحقق للديوان شاعريته، عن طريق استخدام صورة مزدوجة، يتم في البدء استخدامها لغرض، ثم سحب دلالتها بعدما تشكلت لدى القارئ للبناء عليها بدلالة أخرى، وبينما نشعر بالتحليق الشاعري عن فجيعة الوجدان، وعن مشكلة الذات، فإذا بالشاعر في المقطع التالي يقول:
مثل غرناطة
كان حلما
فانهار
ما أسهل القول بأن الشاعر يُحدث حالة من التداخل بين الهم القومي، والهم الوجداني، خاصة أن استحضار ((غرناطة)) له ما له من مفاهيم خاصة به في الوجدان العربي، وهذه الحالة تتصاعد مع المضي في مجموعة القصائد فما يلبث أن يحيلنا الشاعر لوجع العشق والهجر، حتى يسحبنا لوجع الوطن والقومية في داخل القصيدة الواحدة مرات ومرات، يقول:
قالت إني طفلها
فهل تأكل الأم أولادها
وهنا يمكن لنا أن نحمل معنى الأم ما نشاء، فنراها الأم الوطن، أو الأم المعشوقة، أو أيا ما نشاء، كما أننا أيضا يمكن أن نحمل معنى أنه طفلها ما نشاء من معاني الغزل والهيام والغرام، ومعاني الوطنية في الوقت نفسه، فلما التداخل في الصورة؟ أو قل إن هذا التداخل هو ما يصنع جمال الصورة هنا، ومما يصنع جمال الصورة أيضا، ما يفعله الشاعر من ربط للقصيدة بالقصيدة التي تليها عندما يقول:
 يأيها الأبيض المتوسط
خذ دموعي إليها
لتتيقن أني انتهيت
ثم تأتي القصيدة التالية: ((الأطلسية))، وكأنه مهد بما انته إليه من حديثه عن البحر المتوسط بالمرور إلى المحيط الأطلسي، وعندما سنقرأ قصيدة الأطلسية سنعلم أن المساحة التي يتحدث عنها كبيرة جدا، تشمل كل البلدان العربية الواقعة على البحر الأبيض، إذن الشاعر حرص على ترتيب قصائده ترتيبا دلاليا يتداخل في التفسير والتلقي لدى القارئ، ليشعر القارئ وكأنه يقرأ مجموعة سردية من الفصول الممهدة لبعضها، لكننا هنا بإزاء سرد شعري ذاتي.
وأما قصيدة ((الأطلسية)) فهي قصيدة تبدأ بمعاني يتذبذب فيها الوصف بين معاني الأنثى، ومعاني الوطن، عندما يقول الشاعر:
والشَمْسِ ذَاتِ الوجْنَتينِ ..
والأعنابِ والرمانِ …
إنها طالعةٌ منْ دمي
ومَلِكَةُ قلبي
تنبت كلَّ المسافات …
أرضَ المسرةِ …
بالشوقِ
تدخلُ في زمان الحدائق
مزدانة بالورود البهية
والصباحات الفتية
والليالي العتية
من يقصد الشاعر بالبنت الأطلسية في ظل هذا الوصف؟ الإشارة واضحة إلى كينونة وطنية، لكن مصر ليست بدول أطلسية، كما أن الشاعر يشير إلى المغرب وهي دولة أطلسية فماذا يقصد الشاعر بالضبط، يقول:
أنا نيلك الساكن في وديان المغرب
والطالع من مصر
فما هدأ وما قرْ
أيتها البنت الأطلسية
أين منك المفرْ
إذن المعنى المركب لمجمل ما يقوله الشاعر هو الوطن العربي بمجمله، البنت الأطلسية التي يهيم بها شاعرنا بحسب ما يمكن أن نفهم من سياقه هي: القومية العربية، هي الروح الموحدة بين المشكلات التي تواجهنا جميعا كعرب في مواجهة أقدارنا ومشكلاتنا، وهي الروح التي تسكنا تماما كعشق فتاة يضحى عاشقها من أجلها بروحه فداء لها/ فداء للوطن.
وإذا ما انتقلنا لقصيدة ((الضجيج)) فإننا بإزاء ملحمة من نوع إنساني مختلف حول الأسئلة التي تُثار في النفس البشرية منذ الخليقة وإلى الآن حول صراع الخير والشر، لكن في هذه المرة يقدمه الشاعر بصورة مركبة، إنه يرسم لوحة تتشكل من  صور شعورية واحالات لغوية متراكبة، انظر مثلا لقوله:
هم قادرونَ
       على الضجيجِ
.. وهجر كل حناجر الشرفاء
لكن ..
ربما ..
ببساطة البلهاءِ
حين استنكروا أصواتهم
وتناثرت كل الشظايا حولهم
لم يكتفوا بضجيجهم
فاسترسلوا
ومضوا إلىّْ
………
تُعد هذه القصيدة مثالا على عدة تقنيات شعرية استخدمها المؤلف في تحقيق شاعرية ديوانه، فأولا التلاعب بضمائر المخاطبة، وتوجيه القارئ عبر الضمير ((هم)) ليفكر المتلقي بمن المقصود بهم، وهل ((هم)) غير ((نحن))، أو غير ((أنا القارئ)) ونحص ((هو)) الشاعر، ثم سرعان ما يموقع الشاعر ((هم)) بأنهم المهاجرين لكل حناجر الشرفاء، أنها تلك الأسماء التي لا ترد على لسان الشرفاء، وفي مخاتلة لا نعرف فيها من الذي يقوم بفعل الأحداث ولاحظ معي أيضا الانحناء الذي يتخذه الخط في شبه قوس، فالكاتب يتلاعب أيضا بالشكل الكتابي للكلمات، ليؤلف نصا يعتمد في معناه على التشكل السيميائي للعلامات اللغوية المكونة للنص، وينهي هذه المقطوعة بعدما حبسنا أنفسنا وتهيأنا لقبول معنى يحسم لنا الصراع بين ((هم)) الشرفاء، و((هم)) غير الشرفاء، لكي نعرف في الأخر أنهم مضوا إلى المجهول، فالمؤلف وضع ثلاثة أسطر كاملة من النقاط، تتماشي في التشكل النصي للرسم الكتابي بنصف القوس المتجه ناحية اليسار، وكأننا أمام مشهد مسرحي ينسحب منه الممثلين تاركين خشبة المسرح فارغة أمام جميع المشاهدين، وكأنه يضع جميع المشاهدين/القراء في مواجهة أنفسهم.
ثم تبدأ الكتابة من جديد، ولكنها تبدأ بضمير المتكلم، فبعد الحيرة التي وضعنا فيها الشاعر حول المقصود بكلامه، ينقلنا لضمير المتكلم، وإذا ما أخذنا في الحسبان أن كل قارئ سيقرأ النص سيمضي ضمير المتكلم إليه، فإن الشاعر هنا يجعل من نصه نسيجا يخاطب به روح كل قارئ، ليسحبه من التفكير فيما حوله، إلى التفكير فيما في داخله، في الذات البشرية القارئة للموضوع ذاته، يقول الشاعر:
ماذا عليَّ الآن .. ؟!
هل
أجتاز خيبتهم
كروح للشهيد
حكاية للمستباحِ
من الأمورِ
وأرسم الكورال
         حنجرة
لكنه دائما ما يجعلنا عند هذه الحافة من المعني الذي تشعر بأنك ستمسكه وتقبض عليه، ثم فجأة يتسرب المعنى منفلتا من بين يديك، ليصبح القارئ في حالة أشبه بحالة الوعي واللاوعي، وهي ((السيرالية)) ذاتها التي أشار لها الكاتب في موضع أخر، والتي تعني تمثيل العالم بمخاطبة لا شعور المتلقي، محاولة التعبير عن حالة اللاوعي التي قد يتعرض لها الإنسان في حياته، ويساعد على تأكيد ذلك مجموعة الأسئلة التي سيطلقها القارئ مندهشا: من الشهيد؟ من المستباح؟ وكيف تصبح حنجرة واحدة من الصوت كورال كاملا من الإنشاد والتغني؟ وما إن تمضي حتى تجد الشاعر يقول:
 لمخمور يصارع قوة الجاموس
                   والأبقارِ
                   والأسرابِ
                  وامرأةٍ
                  تنام على سرير دافئ
                 في ليلة شتوية

ومن جديد يتلاعب بنا المؤلف بالشكل السيميائي للعلامة النصية، فبعدما رسم قوسا في المرحلة الأولى، يعود هذه المرة ويرسم سطرا كاملا مستقيما، ثم ينتقل بنا في مفردات يعدد فيها القوى التي يصارعها المخمور من جاموس وأبقار وأسراب وامرأة، فيضعها في أقصى اليسار أسفل السطر المكتمل تاركا مساحة من الفراغ على يمين النص، فهل يشكل ذلك معنى مواز للمعنى النصي بمطالبة القارئ بالبحث في أعماقه حول الأشياء التي يصارعها وتتصارع معه؟ أو حول ما إذا كان القارئ في حياته مخمورا أم واعيا بصراعاته؟ أبدا لن تمسك بإجابة في ثنايا النص، لكن تبقي قدرة النص على توليد مثل هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة شاهدة على مقدار ما يحتويه من تقنيات حققت للديوان شاعريته، سواء كانت تقنيات التنغيم الصوتي، والتقديم والتأخير والحذف والوصل، أو كانت تقنيات على مستوى الخطاب، بتلاعب الشاعر في ضمائر المخاطبة، فاستغلها في التأثير على القارئ الذي سيحاول في عملية تأويل النص أن يحلل من يقصد الشاعر بالضبط بـ ((هم/نحن))، وعبر التشكيل البصري للكتلة النصية، كما استغل الشاعر انزياح الدلالة بين المحبوبة/الوطن/ الواقع الصعب الذي نعيشه، فعل كل هذا في إطار من التغني والعزف الذي لا شك أرهق أوتار آلته الموسيقية، فخانته في ترتيب النغمات في بعض الأحيان، فلم يكن من المبرر تقديم الأبقار والجاموس على المرأة؟ ولم يكن من المبرر غياب المعنى المحال إليه في تلبس الساعات التي لا نعرف بالضبط فيما تتلبس الساعات، ولا غياب المنطق في جعل حنجرة كاملة هي جوقة كاملة، نعم عزف الشاعر سيمفونيته بمفرده في ديوانه، لكن هل نجح في أن يؤدي كل أدوار الفرقة الموجودة في مخيلته، أم أن بعض الأدوار انزاحت عن موقعها الطبيعي؟ أسئلة أتركها مفتوحة لتلقي القارئ.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان)

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان) بحث: الناقد وائل النجمي يعد مفهوم "وحدة القصيدة" من المفاهيم اله...