الجمعة، 11 أبريل 2014

المضحكات المبكيات ... مفارقة عبد السلام ابراهيم في كوميديا الموتى

المضحكات المبكيات ... مفارقة عبد السلام ابراهيم في كوميديا الموتى

الناقد / وائل النجمي
"التشويق" و"الجاذبية" من علامات النجاح المهمة في أي عمل سردي، فهما يدفعان القارئ إلى إكمال عملية القراءة، ويوجهان إلى انفتاح أفق التلقي وفهم أبعاد التأويل، ولا شك أن هذه العلامة موجودة بقوة في مجموعة «كوميديا الموتى» لـ (عبد السلام ابراهيم) –صادرة عن النشر الاقليمي فرع الأقصر 2010م، تلك المجموعة التي تتكون من 20 قصة تتراوح ما بين الأقصوصة، والقصة القصيرة، وقد بدأ (ابراهيم) عملية التشويق مبكرا مع القارئ، منذ العنوان، فهل من كوميديا في الموت؟ هل يمكن تخيل أن هذا الحدث الذي تخاف منه البشرية جميعها به من المفارقات ما قد يؤدي لصنع بسمة ما؟ أم أن الأمر هو من المضحكات التي هي في حقيقة الأمر مبكيات؟ يستبين عند محاولة الاجابة عن هذا السؤال أن العنوان مستوحى من القصة العاشرة في المجموعة، أي القصة التي تقع في القلب من بين باقي القصص، وكأن هذا الاختيار بهذه العنونة، وهذا الترتيب يؤكد على نوع خاص من الكوميديا موجود في قلب الحياة، وفي قلب الواقع دون أن نشعر به، إذن علينا أن نبدأ من قلب المجموعة حتى نستبين دلالة العنونة ثم نعود من جديد لباقي القصص. 
تتناول قصة «كوميديا الموتى» جدلية الموت والحياة، وتنظر بوجهة نظر مغايرة لأولئك الذين تجعلهم ظروفهم موتى في الحياة! إنها صرخة في وجه التعاسة الإنسانية، والظلم الإنساني، وتخلي الإنسان عن أخيه الإنسان في مواجهة متطلبات الحياة، ليصبح الفقير في مصر لا يملك إلا أملا واحدا بعيدا، هو أن تُسقِط السماء عليه ذهبا، أو يرحل من هذه الدنيا حتى يتخلص من مشكلاته، إنها تتحدث عن ذلك الأب الذي ملأ أبناءه باليقين في مواجهة الحياة، ثم مات دون أن يملأ بطنه، دون أن يشبع يوما واحدا، بل دون أن يكون هناك كفن متوفر له يوم أن جاءته المنية، وها هو اليوم استطاع الابن أن يوفر كفنا لوالده، فيعود له رغم صعوبة المهمة - تلك المهمة التي فرضت الدنيا على هؤلاء البائسين أن يكون مصدر معيشتهم الحاد الموتى – يعود الابن ليواري عظام أبيه في الكفن، فهل تستحق هذه الدنيا التي جميعنا فيها مصيرنا للدود يتغذى علينا، أن يكون بيننا كل هذا الفقر، أو هل نملك لمن يبخلون بأموالهم عن الاسهام في توفير الحاجات الإنسانية إلا أن نسخر منهم وأن نضحك من تصرفاتهم، إنها كوميديا سوداء عجيبة.
وما يحقق فاعلية هذه الأقصوصة الدمج بين الوصف، وبين الرسالة المتضمنة في طريقة سردها، ولعل من أول الأشياء التي تتبدى لنا في خصوصية سرد (عبد السلام إبراهيم) طريقته الخاصة في الوصف، في تقديم الدفقة الشعورية عبر استبطان المعنى الكامن في أعماق الشخصية من خلال الواقع ومعطياته من حول الشخصية في مسيرتها، فالمكان، أو إن شئت الدقة وصف المكان وتوظيفه يحتلان أهمية كبرى في سردية (عبد السلام إبراهيم)، خذ على ذلك المثال التالي، يقول الراوي:
 «متأبطا قطعة قماش بيضاء صعد حائط الجبانة المرتفع. هبط ثم مشى ناظرا تحت قدميه يتفادى القبور المبنى فوقها هرم والمكتوب عليها، والمطلية بألوان مختلفة، والقبور التي تساوت بالأرض والمحفورة بمخالب الكلام والمهدمة، بينما كان يحدق في تلك التي ليست عليها علامات أو طوب مرصوص، كادت قدمه أن تنزلق في احداها، بشهقة عالية سحبها.» صـ28
فللوهلة الأولى قد تشعر بأن الوصف المسهب لأنواع القبور ما بين المهدم والهرم والمرتفع والممحو، هو إطالة للقصة التي تقوم على قصر معطياتها، لكن ربط معطيات الوصف بباقي القصة، مع الفكرة الأساسية المطروحة حول مصير وحياة بني البشر، فإن تعددية أنواع القبور هنا تلائم تماما تعددية الناس وطبقاتهم، وكأن المعنى الضمني الكامن: كل الناس بمختلف انواعهم مصيرهم تحت التراب، وإن تعددت أشكال القبور التي ستُتَخذ لهم. لكن هذا لا يعني أنه في أماكن أخرى لم ينزلق الكاتب لهواية الوصف على حساب الموضوع نفسه بحسب ما سيجيئ، لكن حتى هذا الوقت فلنمض تجاه تقنية ثانية تكشف عن نفسها وستتكرر باطراد في المجموعة – باستثناء أقصوصتين هما: التوهج، وأبو خليفة – وهذه التقنية هي الراوي الخارجي، الراوي بضمير الغائب، الكلي المعرفة، ذلك الراوي الذي يقدم لنا جميع التفاصيل، الحالية والماضية، الحاضرة والغائبة، ربما كان هدف هذه التقنية محاولة قول الكثير، واختصار الكثير في مساحات سردية صغيرة، لكن لا شك أن عيوبها ما تورط فيه أحيانا الكاتب من زيادة في الوصف، وتكرارية في تقديم معلومات يمكن بسهولة اقتطاعها من السياق السردي دون أن تؤثر على مسيرة ورسالة القصة.
مثال ذلك، المقطع التالي الذي يُعد نموذجا للراوي الغائب كلي المعرفة، وللوقوع في أسر الوصف، من أقصوصة «الخط المستقيم»:
«استدار حميد قادما من ناحية الجبانة القديمة محاولا اختراق المارة عند المدخل الجنوبي لشارع السوق، هدأ من سرعته ومرق بجانب الحائط ممسكا العصا من المنتصف، لف حول نفسه عدة مرات وعاد إلى بداية المدخل الجنوبي لشارع السوق، توقف لاهثا وكشف بعينية الشارع الممتد غير عابئ بالمارة المتناثرين، أحكم قبضته على العصا بيمينه، من نقطة بعد سور الجامع حددها هو، وعند زمن ما للأمام خطت قدماه مسرعتان، وللأمام وللخلف حرك يديه مارقا في منتصف الشارع، تزيد سرعته كلما خطا بقدميه الناشفتين ناهبا الشارع وعند القهوة كان الشارع مسدودا بالباعة، وقف هادرا يتطاير سائل من فمه وأنفه، جلس مكانه ممسكا العصا من المنتصف يصيح وهو مغمض العينين: - تششه» صـ34
لقد طال الوصف هنا إلى درجة ربما ليس مكانها الأقصوصة القصيرة، وإنما مكانها الرواية، بل في الرواية نفسها كنا سنعيب هذا المقطع الذي يقدم وصفا أكثر مما يحتاجه السرد، فزمن السرد – زمن الصيغة بتعبير جيرار جينيت – أكثر بطئا من زمن الواقع، فما يأخذه القارئ من وقت في قراءة المقطع أكثر مما يحدث في الواقع من حدث – ونقصد بالواقع هنا واقع القصة، وطبعا من حق الراوي أن يختار لحظة ما ليكبرها ويجعلها بألف لحظة، ولكن شريطة أن يكون هذا متناسقا مع منطق السرد ذاته، شريطة أن يكون الدور التأويلي والدور الذي يتم تقديمه في تشفير وفك الشفرة يتأثر بهذا التكبير، لكنني أعتقد أنه في أماكن عديدة من المنطق السردي، كانت تحدث تكبيرات وصفية متداخلة مع تقاطعات الراوي دون أن يكون لها مقابل أو تأثير في التأويل، والأمثلة عديدة في المجموعة.
والظاهرة التي تستحق الوقوف أمامها هو محاولة المجموعة استبطان النفس الانسانية، محاولة تقديم أطروحة لفهم الانسان، لكنها اطروحة تنطلق من المنتصف، ولا نعرف بالضبط إلى أين يمكن أن تصل بنا، اهتمت بقضايا الفقر والجوع والحيرة والنفاق، وتعددت رؤاها وتنوعت، إلا أنها تصل ذروتها وروعتها – من منظوري – عندما تحاول أن تستبطن جوانب القوى والضعف في الذات البشرية، ففي أقصوصة «الصورة خارج البرواز» حديث عن تلك الأقنعة التي نضعها جميعا، بقدر أو بآخر، والمقابل الرمزي بين سقوط صورة من بروزاها، وانكشاف بطل القصة أمام زميله، ورغبة زميله في مواجهته،.
بينما في أقصوصة «موت كومبارس» فالراوي يطرح معضلة العلاقة الأزلية بين صراع الفرد مع المجتمع! صراع البحث حول مَن هم الأبطال؟ ومن الـ «كومبارس» في الحياة؟ هل الأمر بالاختيار أم أن الأدوار وزعت وانتهت؟ ماذا تفعل إن اكتشفت مع قرب انتهاء حياتك أنك كنت تعيش في هذه الدنيا «كومبارسا»، أنك كنت دائما تقوم بدور الداعم والمساند لنجاح الأخرين وظهورهم دون أن تقترب من النجاح؟ تكتشف أنك كنت تعيش على الحياة من خلال هامشها؟ وأنك نادرا ما كانت لك أدوار البطولة.
إذن نحن أمام ذبذبة إبداعية، تعكس قدرة الكاتب على اختصار ألاف الأسئلة في مساحات سردية قصيرة، وقد اخترت وصف مساحات سردية وليس مساحات نصية، مفرقا بين المساحة التي يقوم فيها السرد بأدواره كاملة وبين المساحة التي يسودها ويملأها النص بينما هي قد لا يكون لها أية وظيفة في السياق السردي، فالعبرة ليس بعدد الكلمات هنا، وإنما بالإقناع والمنطقية السردية، المنطقية السردية التي ينجح الكاتب تماما في أن يقنعنا فيها في أماكن عديدة، وفي أحيان أخرى نشعر بأننا نتوه معه في دوائر دون أن تصل إلينا الرسالة المتضمنة، وإن كان التشويق والجذب حاضرا في كل الأحوال، إلا أن الفحوى والمنطق السردي يغيب أحيانا.
لعل مثال على ذلك أقصوصة «هيام»، والمقارنة بين هيام ابنة الثامنة، وهيام ابنة العشرين، والرابط بين الحالين ما تحمله هيام في يديها من طفل صغير تلاعبه بنفس الطريقة، ومع انتقال الراوي من الغائب في بداية الأقصوصة: «عندما كانت هيام في الثامنة من عمرها خرجت حاضنة طفلا صغيرا، أخذت تدور حول جذر الشجرة المقطوعة أمام البيت، راحت تغني ...» صـ 32، وبين الراوي الحاضر في النص، الراوي بضمير أنا: «عندما أصبحت هيام في العشرين من عمرها خرجت من البيت – وكنت واقفا في الشرفة بحيث لا يظهر جسدي كله – تدور حول جذر الشجرة المقطوعة ...» صـ 33، من يمثل الراوي في السرد؟ هل هو الطفل الذي كانت تحمله هيام؟ أم هو زوجها وما تحمله هو طفلهم؟ ما المعنى المتضمن والرسالة المحمولة؟
 لقد أراد كاتبنا اختزال أمور كثيرة في دفقات القصيرة. استوعب العديد من الأسئلة عن الدور في الحياة، وعن رسالة الإنسان، لكنه أيضا يبدي ولعا شديدا بما وراء الطبيعة، أو بطريقة نظرنا لما وراء الطبيعة في الحياة، فعبر 8 أقصوصات هي:  «سيدة الدود»، و«طريق واحد»، و«أبو خليفة»، و«الدرويش»، و«نداء الموتى»، و«صن عوض الله العوامري»، و«الموت المطلق»، و«بيت الثعابين». عبر هذه الأقصوصات الثمانية تناول الكاتب اطروحات عن الجان والمارد والرصد والأحلام وحاوي الثعابين والدراويش وحالة الشبحية بين الحياة والموت، تناولها بمنظور لا يطرحها باعتبارها قابلة للشك أو حتى التحليل، وإنما باعتبارها وقائع قامت بأدوار محددة في تحقيق السرد وفي تحديد وظائف الشخصيات ومسار الأحداث، وفي أقصوصة «طفل صغير جدا» يخلع صفاتا اسطورية على ادراك طفل صغير بأن رجلا غريبا على وشك التحرش بأمه، فيقوم بمنع ذلك عبر التبرز على نفسه.
إذن كانت في مواضع كثيرة الأقصوصات ضاربة في العمق، ناجحة في أن تحقق المتعة والدهشة، وإيصال رسالة واضحة وعميقة الأثر في وعي المتلقي، وفي أماكن أخرى، غاب عن الأقصوصات عمق الرسالة، ولم تغب الجاذبية والتشويق القائمان على الوصف، لكن في بعض الأماكن اكتفت فقط بتلاعب الراوي بالوصف المكاني، وبمحددات المكان المحيط بالشخصيات، وغلب على المجموعة الراوي الخارجي كلي المعرفة، فقد تلاحظ لنا ندرة تغيير هذا النمط أو التحول عنه، وفي أماكن كثيرة يجيد الراوي التكثيف وتقديم الكثير في أقل مسيرة سردية ممكنة، بينما في أماكن أخرى كان السرد هو من يسيطر على الراوي، ورغم الجاذبية التي تدفع القارئ إلى الاستمرار في القراءة إلا أن شعورا ما بتضارب وصول الرسالة للمتلق يطرح نفسه أحيانا.

 إنها محاولة جيدة للتصويب، لكنك تشعر أن السهم قد حاد عن الوصول لمنتصف الدائرة، لقد وصلت الدفقة الابداعية لأعلى مستوى لها في «كوميديا الموتى»، و«تأبين ماكبث» و«سيدة الدود» - من وجهة نظري، وتركت مساحة للتساؤل في أقصوصات مثل «هيام» و«خط مستقيم» التي لا نعرف فهيا ما إذا كان عودة الدرويش لطبيعته مساء سببها اصطناعه ذلك صباحا أم غياب من يستفزونه في المساء، و«أبو خليفة» التي كان يمكن الاستغناء عن الكثير من الشخصيات المسماة والمكناة فيها دون تأثر في مسيرة السرد، و«التوهج» التي لم استطع أن أصل للرسالة المتضمنة في شفرتها. وبين هذه الأقصوصات وتلك، وفي كل الأحوال كان هناك قلم متميز في ابقاء القارئ بين دفتي المجموعة، لا يغادر صفحة دون أن يقرأها، بقي عليا أن أؤكد أن كل ما قدمته هو من قراءتي ومنظوري الخاص تجاه المجموعة، وهو المنظور ذاته الذي يؤمن بأنه لا صواب مطلق أو حجر على الذائقة الابداعية والنقدية، ومن ثم فإن كل ما قدمته قابل تماما لأن يقدم آخرون غيره وفق معطياتهم ورؤيتهم؛ لذا فإنني أدعو المزيد من القراء والنقاد إلى قراءة هذا العمل، وتقديم طرحهم حوله.
==========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان)

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان) بحث: الناقد وائل النجمي يعد مفهوم "وحدة القصيدة" من المفاهيم اله...