الجمعة، 11 أبريل 2014

المضحكات المبكيات ... مفارقة عبد السلام ابراهيم في كوميديا الموتى

المضحكات المبكيات ... مفارقة عبد السلام ابراهيم في كوميديا الموتى

الناقد / وائل النجمي
"التشويق" و"الجاذبية" من علامات النجاح المهمة في أي عمل سردي، فهما يدفعان القارئ إلى إكمال عملية القراءة، ويوجهان إلى انفتاح أفق التلقي وفهم أبعاد التأويل، ولا شك أن هذه العلامة موجودة بقوة في مجموعة «كوميديا الموتى» لـ (عبد السلام ابراهيم) –صادرة عن النشر الاقليمي فرع الأقصر 2010م، تلك المجموعة التي تتكون من 20 قصة تتراوح ما بين الأقصوصة، والقصة القصيرة، وقد بدأ (ابراهيم) عملية التشويق مبكرا مع القارئ، منذ العنوان، فهل من كوميديا في الموت؟ هل يمكن تخيل أن هذا الحدث الذي تخاف منه البشرية جميعها به من المفارقات ما قد يؤدي لصنع بسمة ما؟ أم أن الأمر هو من المضحكات التي هي في حقيقة الأمر مبكيات؟ يستبين عند محاولة الاجابة عن هذا السؤال أن العنوان مستوحى من القصة العاشرة في المجموعة، أي القصة التي تقع في القلب من بين باقي القصص، وكأن هذا الاختيار بهذه العنونة، وهذا الترتيب يؤكد على نوع خاص من الكوميديا موجود في قلب الحياة، وفي قلب الواقع دون أن نشعر به، إذن علينا أن نبدأ من قلب المجموعة حتى نستبين دلالة العنونة ثم نعود من جديد لباقي القصص. 
تتناول قصة «كوميديا الموتى» جدلية الموت والحياة، وتنظر بوجهة نظر مغايرة لأولئك الذين تجعلهم ظروفهم موتى في الحياة! إنها صرخة في وجه التعاسة الإنسانية، والظلم الإنساني، وتخلي الإنسان عن أخيه الإنسان في مواجهة متطلبات الحياة، ليصبح الفقير في مصر لا يملك إلا أملا واحدا بعيدا، هو أن تُسقِط السماء عليه ذهبا، أو يرحل من هذه الدنيا حتى يتخلص من مشكلاته، إنها تتحدث عن ذلك الأب الذي ملأ أبناءه باليقين في مواجهة الحياة، ثم مات دون أن يملأ بطنه، دون أن يشبع يوما واحدا، بل دون أن يكون هناك كفن متوفر له يوم أن جاءته المنية، وها هو اليوم استطاع الابن أن يوفر كفنا لوالده، فيعود له رغم صعوبة المهمة - تلك المهمة التي فرضت الدنيا على هؤلاء البائسين أن يكون مصدر معيشتهم الحاد الموتى – يعود الابن ليواري عظام أبيه في الكفن، فهل تستحق هذه الدنيا التي جميعنا فيها مصيرنا للدود يتغذى علينا، أن يكون بيننا كل هذا الفقر، أو هل نملك لمن يبخلون بأموالهم عن الاسهام في توفير الحاجات الإنسانية إلا أن نسخر منهم وأن نضحك من تصرفاتهم، إنها كوميديا سوداء عجيبة.
وما يحقق فاعلية هذه الأقصوصة الدمج بين الوصف، وبين الرسالة المتضمنة في طريقة سردها، ولعل من أول الأشياء التي تتبدى لنا في خصوصية سرد (عبد السلام إبراهيم) طريقته الخاصة في الوصف، في تقديم الدفقة الشعورية عبر استبطان المعنى الكامن في أعماق الشخصية من خلال الواقع ومعطياته من حول الشخصية في مسيرتها، فالمكان، أو إن شئت الدقة وصف المكان وتوظيفه يحتلان أهمية كبرى في سردية (عبد السلام إبراهيم)، خذ على ذلك المثال التالي، يقول الراوي:
 «متأبطا قطعة قماش بيضاء صعد حائط الجبانة المرتفع. هبط ثم مشى ناظرا تحت قدميه يتفادى القبور المبنى فوقها هرم والمكتوب عليها، والمطلية بألوان مختلفة، والقبور التي تساوت بالأرض والمحفورة بمخالب الكلام والمهدمة، بينما كان يحدق في تلك التي ليست عليها علامات أو طوب مرصوص، كادت قدمه أن تنزلق في احداها، بشهقة عالية سحبها.» صـ28
فللوهلة الأولى قد تشعر بأن الوصف المسهب لأنواع القبور ما بين المهدم والهرم والمرتفع والممحو، هو إطالة للقصة التي تقوم على قصر معطياتها، لكن ربط معطيات الوصف بباقي القصة، مع الفكرة الأساسية المطروحة حول مصير وحياة بني البشر، فإن تعددية أنواع القبور هنا تلائم تماما تعددية الناس وطبقاتهم، وكأن المعنى الضمني الكامن: كل الناس بمختلف انواعهم مصيرهم تحت التراب، وإن تعددت أشكال القبور التي ستُتَخذ لهم. لكن هذا لا يعني أنه في أماكن أخرى لم ينزلق الكاتب لهواية الوصف على حساب الموضوع نفسه بحسب ما سيجيئ، لكن حتى هذا الوقت فلنمض تجاه تقنية ثانية تكشف عن نفسها وستتكرر باطراد في المجموعة – باستثناء أقصوصتين هما: التوهج، وأبو خليفة – وهذه التقنية هي الراوي الخارجي، الراوي بضمير الغائب، الكلي المعرفة، ذلك الراوي الذي يقدم لنا جميع التفاصيل، الحالية والماضية، الحاضرة والغائبة، ربما كان هدف هذه التقنية محاولة قول الكثير، واختصار الكثير في مساحات سردية صغيرة، لكن لا شك أن عيوبها ما تورط فيه أحيانا الكاتب من زيادة في الوصف، وتكرارية في تقديم معلومات يمكن بسهولة اقتطاعها من السياق السردي دون أن تؤثر على مسيرة ورسالة القصة.
مثال ذلك، المقطع التالي الذي يُعد نموذجا للراوي الغائب كلي المعرفة، وللوقوع في أسر الوصف، من أقصوصة «الخط المستقيم»:
«استدار حميد قادما من ناحية الجبانة القديمة محاولا اختراق المارة عند المدخل الجنوبي لشارع السوق، هدأ من سرعته ومرق بجانب الحائط ممسكا العصا من المنتصف، لف حول نفسه عدة مرات وعاد إلى بداية المدخل الجنوبي لشارع السوق، توقف لاهثا وكشف بعينية الشارع الممتد غير عابئ بالمارة المتناثرين، أحكم قبضته على العصا بيمينه، من نقطة بعد سور الجامع حددها هو، وعند زمن ما للأمام خطت قدماه مسرعتان، وللأمام وللخلف حرك يديه مارقا في منتصف الشارع، تزيد سرعته كلما خطا بقدميه الناشفتين ناهبا الشارع وعند القهوة كان الشارع مسدودا بالباعة، وقف هادرا يتطاير سائل من فمه وأنفه، جلس مكانه ممسكا العصا من المنتصف يصيح وهو مغمض العينين: - تششه» صـ34
لقد طال الوصف هنا إلى درجة ربما ليس مكانها الأقصوصة القصيرة، وإنما مكانها الرواية، بل في الرواية نفسها كنا سنعيب هذا المقطع الذي يقدم وصفا أكثر مما يحتاجه السرد، فزمن السرد – زمن الصيغة بتعبير جيرار جينيت – أكثر بطئا من زمن الواقع، فما يأخذه القارئ من وقت في قراءة المقطع أكثر مما يحدث في الواقع من حدث – ونقصد بالواقع هنا واقع القصة، وطبعا من حق الراوي أن يختار لحظة ما ليكبرها ويجعلها بألف لحظة، ولكن شريطة أن يكون هذا متناسقا مع منطق السرد ذاته، شريطة أن يكون الدور التأويلي والدور الذي يتم تقديمه في تشفير وفك الشفرة يتأثر بهذا التكبير، لكنني أعتقد أنه في أماكن عديدة من المنطق السردي، كانت تحدث تكبيرات وصفية متداخلة مع تقاطعات الراوي دون أن يكون لها مقابل أو تأثير في التأويل، والأمثلة عديدة في المجموعة.
والظاهرة التي تستحق الوقوف أمامها هو محاولة المجموعة استبطان النفس الانسانية، محاولة تقديم أطروحة لفهم الانسان، لكنها اطروحة تنطلق من المنتصف، ولا نعرف بالضبط إلى أين يمكن أن تصل بنا، اهتمت بقضايا الفقر والجوع والحيرة والنفاق، وتعددت رؤاها وتنوعت، إلا أنها تصل ذروتها وروعتها – من منظوري – عندما تحاول أن تستبطن جوانب القوى والضعف في الذات البشرية، ففي أقصوصة «الصورة خارج البرواز» حديث عن تلك الأقنعة التي نضعها جميعا، بقدر أو بآخر، والمقابل الرمزي بين سقوط صورة من بروزاها، وانكشاف بطل القصة أمام زميله، ورغبة زميله في مواجهته،.
بينما في أقصوصة «موت كومبارس» فالراوي يطرح معضلة العلاقة الأزلية بين صراع الفرد مع المجتمع! صراع البحث حول مَن هم الأبطال؟ ومن الـ «كومبارس» في الحياة؟ هل الأمر بالاختيار أم أن الأدوار وزعت وانتهت؟ ماذا تفعل إن اكتشفت مع قرب انتهاء حياتك أنك كنت تعيش في هذه الدنيا «كومبارسا»، أنك كنت دائما تقوم بدور الداعم والمساند لنجاح الأخرين وظهورهم دون أن تقترب من النجاح؟ تكتشف أنك كنت تعيش على الحياة من خلال هامشها؟ وأنك نادرا ما كانت لك أدوار البطولة.
إذن نحن أمام ذبذبة إبداعية، تعكس قدرة الكاتب على اختصار ألاف الأسئلة في مساحات سردية قصيرة، وقد اخترت وصف مساحات سردية وليس مساحات نصية، مفرقا بين المساحة التي يقوم فيها السرد بأدواره كاملة وبين المساحة التي يسودها ويملأها النص بينما هي قد لا يكون لها أية وظيفة في السياق السردي، فالعبرة ليس بعدد الكلمات هنا، وإنما بالإقناع والمنطقية السردية، المنطقية السردية التي ينجح الكاتب تماما في أن يقنعنا فيها في أماكن عديدة، وفي أحيان أخرى نشعر بأننا نتوه معه في دوائر دون أن تصل إلينا الرسالة المتضمنة، وإن كان التشويق والجذب حاضرا في كل الأحوال، إلا أن الفحوى والمنطق السردي يغيب أحيانا.
لعل مثال على ذلك أقصوصة «هيام»، والمقارنة بين هيام ابنة الثامنة، وهيام ابنة العشرين، والرابط بين الحالين ما تحمله هيام في يديها من طفل صغير تلاعبه بنفس الطريقة، ومع انتقال الراوي من الغائب في بداية الأقصوصة: «عندما كانت هيام في الثامنة من عمرها خرجت حاضنة طفلا صغيرا، أخذت تدور حول جذر الشجرة المقطوعة أمام البيت، راحت تغني ...» صـ 32، وبين الراوي الحاضر في النص، الراوي بضمير أنا: «عندما أصبحت هيام في العشرين من عمرها خرجت من البيت – وكنت واقفا في الشرفة بحيث لا يظهر جسدي كله – تدور حول جذر الشجرة المقطوعة ...» صـ 33، من يمثل الراوي في السرد؟ هل هو الطفل الذي كانت تحمله هيام؟ أم هو زوجها وما تحمله هو طفلهم؟ ما المعنى المتضمن والرسالة المحمولة؟
 لقد أراد كاتبنا اختزال أمور كثيرة في دفقات القصيرة. استوعب العديد من الأسئلة عن الدور في الحياة، وعن رسالة الإنسان، لكنه أيضا يبدي ولعا شديدا بما وراء الطبيعة، أو بطريقة نظرنا لما وراء الطبيعة في الحياة، فعبر 8 أقصوصات هي:  «سيدة الدود»، و«طريق واحد»، و«أبو خليفة»، و«الدرويش»، و«نداء الموتى»، و«صن عوض الله العوامري»، و«الموت المطلق»، و«بيت الثعابين». عبر هذه الأقصوصات الثمانية تناول الكاتب اطروحات عن الجان والمارد والرصد والأحلام وحاوي الثعابين والدراويش وحالة الشبحية بين الحياة والموت، تناولها بمنظور لا يطرحها باعتبارها قابلة للشك أو حتى التحليل، وإنما باعتبارها وقائع قامت بأدوار محددة في تحقيق السرد وفي تحديد وظائف الشخصيات ومسار الأحداث، وفي أقصوصة «طفل صغير جدا» يخلع صفاتا اسطورية على ادراك طفل صغير بأن رجلا غريبا على وشك التحرش بأمه، فيقوم بمنع ذلك عبر التبرز على نفسه.
إذن كانت في مواضع كثيرة الأقصوصات ضاربة في العمق، ناجحة في أن تحقق المتعة والدهشة، وإيصال رسالة واضحة وعميقة الأثر في وعي المتلقي، وفي أماكن أخرى، غاب عن الأقصوصات عمق الرسالة، ولم تغب الجاذبية والتشويق القائمان على الوصف، لكن في بعض الأماكن اكتفت فقط بتلاعب الراوي بالوصف المكاني، وبمحددات المكان المحيط بالشخصيات، وغلب على المجموعة الراوي الخارجي كلي المعرفة، فقد تلاحظ لنا ندرة تغيير هذا النمط أو التحول عنه، وفي أماكن كثيرة يجيد الراوي التكثيف وتقديم الكثير في أقل مسيرة سردية ممكنة، بينما في أماكن أخرى كان السرد هو من يسيطر على الراوي، ورغم الجاذبية التي تدفع القارئ إلى الاستمرار في القراءة إلا أن شعورا ما بتضارب وصول الرسالة للمتلق يطرح نفسه أحيانا.

 إنها محاولة جيدة للتصويب، لكنك تشعر أن السهم قد حاد عن الوصول لمنتصف الدائرة، لقد وصلت الدفقة الابداعية لأعلى مستوى لها في «كوميديا الموتى»، و«تأبين ماكبث» و«سيدة الدود» - من وجهة نظري، وتركت مساحة للتساؤل في أقصوصات مثل «هيام» و«خط مستقيم» التي لا نعرف فهيا ما إذا كان عودة الدرويش لطبيعته مساء سببها اصطناعه ذلك صباحا أم غياب من يستفزونه في المساء، و«أبو خليفة» التي كان يمكن الاستغناء عن الكثير من الشخصيات المسماة والمكناة فيها دون تأثر في مسيرة السرد، و«التوهج» التي لم استطع أن أصل للرسالة المتضمنة في شفرتها. وبين هذه الأقصوصات وتلك، وفي كل الأحوال كان هناك قلم متميز في ابقاء القارئ بين دفتي المجموعة، لا يغادر صفحة دون أن يقرأها، بقي عليا أن أؤكد أن كل ما قدمته هو من قراءتي ومنظوري الخاص تجاه المجموعة، وهو المنظور ذاته الذي يؤمن بأنه لا صواب مطلق أو حجر على الذائقة الابداعية والنقدية، ومن ثم فإن كل ما قدمته قابل تماما لأن يقدم آخرون غيره وفق معطياتهم ورؤيتهم؛ لذا فإنني أدعو المزيد من القراء والنقاد إلى قراءة هذا العمل، وتقديم طرحهم حوله.
==========

قراءة نقدية لأربعة دواوين جنوبية:

قراءة نقدية لأربعة دواوين جنوبية:

الناقد/ وائل النجمي
تحتل العامية في هذا الأوان مساحة شاسعة من تأليفات الشعر، فمع انتشار الفضائيات، والمسابقات التليفزيونية التي لم تقم على اختيار نقدي حقيقي، ورغبة الشاعر في أن يكون قريب من الجمهور، وأيضا وجود مشكلات تلقي لدى الجمهور نفسه، أصبحت العامية هي لسان حال المجتمع، وهي لسان حال الكثيرين من الشعراء أيضا، ومن منظور الشعرية البحت فإن الشاعر له مطلق الحرية في اختيار القالب ووسيلة التعبير التي يرغب في إيصال رسالته بها، العبرة بقدرته على تقديم هذه الرسالة بشكل يحقق المتعة الجمالية، ويدفع القارئ إلى الإقبال والاستمتاع بالقول المقدم، ففي النهاية الجمالية وحدها هي ما تحدد قيمة العمل، ولا شك أن شعر العامية منذ بداية الموشحات الأندلسية حتى صلاح جاهين وفؤاد حداد في وقتنا القريب، لا شك أنه لم يحظ بالدراسة الكافية والتنظير النقدي والأكاديمي الذي يسمح بالكشف أكثر عن ظواهره وتصنيفه، وتوفير مصطلحاته اللازمة التي تعين الناقد على تقديم رؤية أكثر عمقا للعامية، وهي المفارقة بين كثرة انتشار العامية، وقلة النقد المقدم تجاهه.
واقترنت العامية منذ البداية حتى التطور الحديث اقترنت كثيرا بالميل لأسلوب الحكم، فغالبا ما يميل الشاعر إلى أن يضف صفات الحكمة والتعجب ورسم الدهشة على سامعه، لكن في اعتقادي مع تطور قصيدة النثر والاتجاهات الحداثية وما بعد الحداثية في الشعر العربي، فإن ذلك يجدر أن يلق بظلاله على العامية المصرية، ولا سيما في عنصر التخييل، الذي يمكن القول أن العامية تلق براحا أكثر في هذا العنصر لاتساع القاموس الدلالي الذي يغترف منه الشاعر، ففي العامية طاقات تعبيرية مرتبطة بروح العصر أكثر مما هو الحال مع الفصحي في تواصلها مع الناس، فهل نجح شعراء دواوينا الأربعة في تحقيق ذلك؟ هل كانت الدواوين العامية المقصودة هنا ناجحة في أن تحفر لنفسها مكانها في منظومة الشعرية العربية؟ أم أنها مجرد تكرار لمقولات توصف واقعا وتعكس مشكلات اجتماعية وشخصية لم تنجح في أن تتخط عقبة الشخصنة؟ فلندع الدراسة هي ما تقرر ذلك.

الديوان الأول: ((حزمة وجع)) لمحمد الريفي:

ما أصعب أن يتوه الإنسان من نفسه، وأن يصل لمرحلة البحث عن روحه، من الباحث ومن المبحوث عنه؟ في اعتقادي الباحث هو الذات المسكونة بهوس الشعر، والمبحوث عنه هو الإنسان في ظل هذه الدنيا الطاحنة، الإنسان أيا كان مكانه وزمانه، الإنسان في علاقته الأزلية بين آدم وحواء؛ لذا ليس مستغربا أن يقول الشاعر في القصيدة التي تعطي الديوان أسمها ((حزمة وجع)):
لساك ماشي تدور
على روحك
في عيون البنات
ويردف ((الريفي)) بتوضيح يبين نوع الأغنية التي يغنيها، فيقول:
بتعزف غنوة للأموات
اللي عايشين جواكرغم ان ف قلبك
حزمة وجع
كيف إذن استطاع الشاعر أن يغني ويعزف رغم أنه ممتلئ الوجع؟ لكن هل تولد الأغاني إلا من خلال الوجع؟ لكن الأموات الساكنين في داخل الشاعر: هل هم الشعراء القدامى؟ هل هم رمز للعادات والتقاليد؟ كل الاحتمالات واردة، وسرعان ما يعود الشاعر للشكوى من عدم قدرة أي بنت على التواصل مع المكنون والمخبوء في صدره. وهل نجح الشاعر نفسه في التوصل لمكنون صدره؟ ولماذا بنت بالذات هي من يتوجب عليها أن تتوصل للمكنون؟ أعتقد أن هدف الشاعر كان تحميل نصه بطاقة غزل ربما لم يكن محلها في النص هنا، أو قل أن المقام كان مهيئ لأن تكون القصيدة رغم عاميتها صاحبة أفق وجدانية إنسانية رحبة، فالناحية الغزلية هنا تقلل من انطلاقها، ورغم ذلك يواصل الشاعر تلاعبه بالمعنى العاطفي عندما يقول:
لساها نفسك خضرة
بس ما فيش بنت قادرة
توصل للمكنون
وتسحب م العيون
حكلة الحزن
اللي مسودة وشك
لكن يبدو أن الشاعر أدرك أن اختزال وجيعة الروح المشار إليها في قصيدته وأنه بحاجة للانطلاق لأفق إنساني أكثر رحابة؛ فاختار التناص الكوني مع الطير، متخيلا نفسه ذلك القادر على السمو والارتفاع، وهي من صفات الطيور، لكن من صفاتها أيضا عدم الاستقرار، خاصة عندا لا تجد لنفسها غصنا ترتكن إليه، يقول الشاعر:
كل ما تحط على غصن
يهشك
لساك بتحلم بالجنة
وست الحسن
وفي عيون البنات ميت
ومرة أخرى نعود للسؤال: لماذا الفتيات بالذات؟ لما لا يجعل الشاعر من قصيدته ملحمة كونية كبيرة تتناص مع حياة البشر جميعا، بدل من العودة واختزال المعنى بالعلاقة العاطفية؟ وأي البنات يقصد: البنات/ العاشقات، البنات/الزوجة؟ وهل نحن بإزاء صورة الدنجوان مقلوبة، ذلك الذي يحاول كل يوم أن يتواصل مع البنات لكنه أبدا لا تلق محاولاته القبول؟ وهل هذه التجربة بذاتها تستحق كل هذه المرارة؟ يقول الشاعر:
كل ليلة بترجع مهزوم
ناقع روحك في جروحك
ريقك لبان دكر
عن أي نوع من أنواع الهزيمة بالضبط يتحدث؟ كان يمكن أن نعزيها لهزيمة الإنسان في مواجهة واقعه، أو حتى لهزيمة المحب في التواصل مع معشوقته، لكن الهزيمة في عدم القدرة مع التواصل مع البنات أيا كانوا، وعدم القدرة على ايجاد تلك الفتاة التي تستطيع أن تمسح دمعة الحزن هما معنيان متناقضان، فهل الشاعر لا يستطيع التواصل مع أي فتاة، أم أنه يتواصل لكن ما يتواصل معه غير كافي؟ ولما لم يستغل أفق الكونية والبشرية التي كانت مهيأة للوصول بها بأفق القصيدة؟
الغريب في مجمل قصائد ((الريفي)) في ديوانه ((حزمة وجع)) أنك ما إن تشعر بانطلاق الوجدان، وانفتاح المعنى في التأويل للوصول لأفق رحبة حتى تجد نفسك تعود من جديد لانغلاق المعنى ناحية أفق عدم القدرة على التواصل مع المحبوب، بل عدم القدرة على ايجاد محبوبة من أساسه ينفتح لها وجدان الشاعر، رغم توق الشاعر لوجود مثل هذه المحبوبة إلا أنه يظل كالطلسم المستغلق، كل البنات حائرات على اكتشاف لغز هذا الطلسم، يقول الشاعر:
بعد البنات ما تروح في النوم
تفتح الألبوم
تبقي مكان كل فارس
مرة قيس .. جميل
مرة أبو الفوارس
وها هو يعود من جديد لمزاوجة معاني الحب بمعاني اعم دون انتصار لأحدهما على الأخر، ولنا أن نسأل: هل كان قيس أو جميل فوارس؟ ألم يكونوا مثالا لحال تملك العشق ووصول الإنسان إلى مرحلة الجنون؟ ألم يصل الأمر مع قيس بأن تعوذ أحد التابعين من العشق بعدما شاهد حالة قيس في الكعبة عندما دعا على نفسه بألا يبرأ من عشق ليلى؟ لكن الوضع عند الريفي معكوس تماما، فهو يميل إلى مفهوم الدنجوانية أكثر ما يميل إلى مفهوم العشق والهيام، يقول:
يا تقلع خشونة الصوت
وتلبس الكلمة ألف توب
وتمنع قلبك يدوب
يا تتجدعن وتموت
بس من غير صوت.
وكأن العبرة عنده بمدى قدرة الرجل على أن يكون له اسهامه في دنيا العقش والهوى، وفي نموذج أخر من ديوانه، قصيدته ((المهاود))، يقول فيها:
لما تكون ماشي
ف عز الحر
او بتعافر
لجل القوت
ومفيش سحابة تمر
صدقني دا أهون
من انك تكون
هدف منصوب
للشمس
إذن يرسم الشاعر موقف مسرحي كامل لإنسان يسير في عز الحر وهو يبحث عن قوته، ثم يصنع حالة من المفاضلة بين ذلك المطحون في لقمة العيش، والأخر الذي هو هدف للشمس، ولا نعلم هل الشمس هنا هي شمس حقيقية أم شمس رمزية؟ لكن سياق النص سيستبعد أفق الترميز في الشمس، ليضعنا في مواجهة المهن التي تعمل في مواجهة الشمس كالمعمار ومهندسين البترول وغيرهم، إلا أن الشاعر يقصد أولئك الذين يبيعون بعض الأشياء البسيطة في حر الشمس، والحقيقة الصورة هنا تتذبذب، والمفاضلة تخف وطئة معناها، ما الفرق الجوهري بين من يعمل في جو حار وهو كادح في عمله، وبين من يعمل في الشمس مباشرة، لا شك أن من يعمل في الشمس مباشرة أكثر تضررا، لكن الصورة كانت بحاجة لمفارقة أكثر بعدا حتى تتضح، وأيضا اختيار البائع الجائل لم يكن موفقا فبإمكانه أن يبيع تحت غطاء من الشمس، إن منطق العمل الداخلي بحاجة لإعادة النظر من قبل الشاعر.
يقول:
وما بين لحظة والتانية
يعدي عليك واحد
أو واحدة تنكش همك
تحرق دمك
تفاصل في العرق
تشكك في الميزان
وفي صورة مقلوبة لما يحدث في السوق من انهزام المشتري غالبا أمام البائع الذي دائما لدي ألف حيلة وحيلة لاستغلال المشتري، بائع الريفي يصيبه الضعف والوهن، فقلبه معلق ومفتوح لمن يبيع لهم، ليختار أن ينهزم أمامهم:
ولان قلبك
متعودش يبيع
غصبن عنك
بتلاقي نفسك
مهاود.
إن الرؤية لدى ((محمد الريفي)) لم تحسم أمرها بعد، ولا يزال تتنازعه العاطفة الشخصية والهم العام، ولا مانع من ذلك إن كان النص يستطيع حسم الصراع لصالح الجمالية الشعرية، لكن ذلك يتنازع النص، ويخلخل تلقي المعنى، فما إن تشعر بأنك على وشك القبض بمعنى محدد، حتى تنسحب لمعنى آخر، ما إن تشعر بأنك تتناول العام حتى تجد نفسك في الخاص، ومن الخاص للعام وهكذا، إذن ما تزال القدرات التعبيرية بحاجة لتوليد طاقات دلالية ومعنوية أكثر من المقدم لدينا في هذا الديوان من وجهة نظري.

الديوان الثاني: ((خايف أرد الباب)) للشاعر: محمد يوسف حامد

لا يخرج ((محمد يوسف حامد)) من أسر الخطابة والمباشرة والتقريرية في ديوان، إذ يبدو أن فخ الحديث عن البشر باعتباره مبررا كافيا بمفرده دون باقي عناصر الشعرية من صور وخيال وتراكيب، ذلك ما هيمن على تفكيره في اعداده لديوانه، وإن كان الشاعر يبدأ قصائده بصورة مركبة تخييلية رائعة لكنه سرعانا ما ينقلب عليها في مشكلات متعلقة بمنطق النص الذي رسمه لنفسه من ناحية، والتكرار المعنوي مع اختلاف اللفظ من ناحية أخرى، فمثلا في قصيدته ((لم الشراع)) نجده يقول:
لم الشراع
الريح ماتت من زمان
ومفيش أمل
نوصل سلام
الشط ضاع
فالإيحاءات التي يولدها الشاعر بفكرة الابحار تحيلنا للحياة نفسها، تلخيصا للإنسان الذي يبحر في بحر الحياة، الإبحار الذي عدة الإنسان فيه شراع يفرده في انتظار أن تجره الريح لتوصله لمراد، ولنا أن نتخيل حال صاحب الشراع إذا سكن الريح؟ يظل ساعتها الإنسان عالقا في مكانه، غير قادر على الحركة يمينا أو يسار.
ولكن المشكلة أن الشاعر سرعان ما ينقلب على الصورة الجميلة المقدمة والتي تستدعي إحالات شعورية ومعنوية ضخمة، فبدلا من المضي مع مشاعر هذا الانسان البائس الذي يقف لا يعرف كيف يتقدم في ظل تلاطم أمواج بحر الحياة، وبالتالي هو في حزن حاضر لا يحتاج لاستقدام حزنه وتذكره، لأن تذكر الحزن يحتاج نسيانه، ولم يقدم لنا الشاعر مبرر نسيانه، ليقول الشاعر:
وترسم الصورة القديمة
في عنينا تنبت دموع
لحظة رجوع الحزن
ف ضلوعي
القط دموعي وادحر
تحت الشراع
وبينما ترسخت في وجداننا صورة المياه الراكدة، والرياح الغائبة، يفاجئنا الشاعر باستحضار الخريف المليء بالرياح الكثيرة، يقول:
تاهت من زمن
لما حدفتنا المواسم
للخريف.
وإذا انتقلنا لقصيدة ((همسة عينيكي الكدابين)) فسنتفاجأ بالفارق بين المقدمة والتهيئة التي تعطيها مقدمة القصيدة عندما يقول الشاعر:
وأنا قاعد  ع الدكة
بشوفك
بتملي في الطرحة كسوفك
وانتي رايحة تجيبي
من السوق الحمام
لكن سرعان ما نتفاجأ بالانتقالة بين جو السوق والنهار والزحمة، لنصبح في جوف الليل، لماذا هذه الانتقالة المفاجأة؟ يقول الشاعر:
وتردي ع الليل السلام
ولا يقبلوش
واقعد سنة
واستنى انك ترجعي
وتعدي منيا السنين
وأشيب
إذن بينما تسلم تلك الفتاة على الليل في كل يوم يضيع عمر الراوي في الانتظار، ورغم أنه قدم لنا بداية القصيدة بايحاء الاعتياد على سلوك المحبوبة لدرجة أنه يعرف نوع السلعة التي ستشتريها – أعني الحمام – من قبل أن تذهب للسوق، إذا بنا نفاجأ بشكواه المرة من عدم رؤيته مرة أخرى لمحبوبته، كيف إن يمكن فهم هذا التضاد؟
لا يوجد أبدا إجابات في النص حول التضارب الدلالي، بل سننتقل من نقطة لأخرى دون إجابات شافية، لنعود من جديد لصورة لا نستطيع تبيان ملامحها الكلية من خلال تفاصيلها الجزئية، انظر للمقطع التالي من قول الشاعر:
وتغيب عن الأرض السما
وارجع أعيد البسملة
وسورة يس
والطرحة لسة ببتكسف
فوق الجبين؟
ما الإشارة التي يمكن أن نفهمها من استمرار كسوف الطرحة؟ هل شاهد الراوي محبوبته مرى أخرى؟ أم أنه يحكي عن خيالاته؟ وما علاقة ذلك بغياب السما عن الأرض، لا نعلم أيا من ذلك من ثنايا النص، بيد أن قفزة سريعة ستغير المعنى المقدم تماما وتحول مسار التلقي من علاقة عاشق بمعشوقته، لإنسان يرثى حال الدنيا بأكملها، من معاني التعبير الذاتي إلى معاني الملحمة الكونية، يقول الشاعر:
ضاعت ملامح دكتي
وملامح الطفل اللي
كان قاعد هنا
بيشابي على ريحة الكسوف
الضلمة جية من الكهوف
يدمج الشاعر بين معاني العشق ومعاني انزياح العمر، واستمرار رغبة الشاعر في البحث عن تلك الفتاة المكسوفة، لكن الانزياح هنا تحول من الحديث عن الفتاة، إلى الحديث عن الكسوف نفسه، كإشارة ضمنية لتغيرات في البنية التركيبية للخلق التعاملات، فهل يمكن في هذا الزمن ايجاد هذا الكسوف الذي كان يراه الشاعر – طبقا لنصه – في صباه؟ والمزاوجة بين الهم الخاص إلى العام إلى أن يصبح الوطن هو المضمر، ذلك المعنى المتضافر من المقطع التالي:
وعينيا لسه بتنظر همسة
عينيكي الكدابين
أيام عديتي ونا
قاعد هنا
بتسلى مع ضل الوطن
وأغسل عينيا من العفق
اللي حدفاها الشاشات
لا شك أن الشاعر هنا في مجمل أعمال ديوانه يبدو في كثير من قصائده قادرا على القبض على السياق والصور، ولكن في أحيان أخرى كانت تضيع منه المقدرة، ليصبح هو المنساق وراء النص الذي واضح أنه يحاول مزاوجة العام في الخاص والخاص في العام، فيوفق في بعض المقاطع ويخفق في أخرى، بل أحيانا يقدم صور لا يمكن فهمها في السياق المقدمة فيه، وعند النظر لها في ذاتها تبدو ملهمة واضحة، عند ضمها  لسياقها الأكبر فإن الصورة الكلية تبدو غير واضحة الرؤية، هل سيستطيع الشاعر في المرة القادمة امتلاك ناصية كلا من: الحكاية والصورة معا؟

الديوان الثالث: ملناش ثمن ليحيى جوهر

شعرة فاصلة بين الشعر والشاعرية، بين النظم والتأثير الانفعالي في المتلقي، بين الزجل الذي يميل إلى الإكثار من السرد والقص وتقديم التفصيلات، وبين التخييل والصورة الشاعرية التي تحلق بأفق المتلقي، وهذه الشعرة يبدو أنها تفلت أحيانا من ((يحيى جوهر)) في ديوانه ((ملناش ثمن))، خاصة في ظل الموضوعات ذات الطابع الجماهيري الشعبي التي يفضل كثيرا ان يكتب فيها، فكأن حنجرته الحيدة تحولت لجوقة من المغنيين يحاول كل مغني فيها أن يعبر عن هموم ومشكلات الناس، ويغيب صوت الشاعر الأساسي نفسه بوصفه قائدا لهذه الجوقة على الأقل، وإن كان يجب ألا ينس أنه صاحب السياق والموقف والتعبير، ولسنا هنا في عملية مفاضلة بين الذاتية والغيرية، وإنما نوجه النظر إلى ضرورة ظهور البصمة الشخصية للشاعر، ضرورة عدم اكتفائي بنقل الأحداث كما هي، فعليه أن يسبغها برية خاصة تسهم في اكساب النص شاعريته.
في قصيدة ((ملناش ثمن)) يقول الشاعر:
احنا ملناش ثمن                               ما احنا ملايين من البشر
وبدون عمل وسط الحجاة والتراب            زي الليمون وسط الشجر
ورغم محاولة الشاعر إيجاد تقارب بين شعر العامية والشعر العامودي الفصيح بقولبة الكلام في شكل القصيدة العمودية، إلا أن القصيدة تشهد عدة اخفاقات في الوزن والايقاع والقافية أحيانا، لكن ما أرغب في التوقف إزائه عدم مناسبة الصورة والتمثيل الذي يتحدث فيه الشاعر عن تمثيل كثرة أعداد البشر وسط الحجارة والتراب، بالليمون وسط الشجر، وصورة الليمون وسط الشجر لا تستدعي التأثير النفسي للناس الملقاة بين الحجارة والتراب لا تجد عملا أو مراعاة؟
لا أبالغ إن قلت أن الإسهاب والتقريرية دفعت الشاعر في الكثير من الأحيان إلى تناسي مبدأ التكثيف، ليقع في مشكلة الإسهاب والتكرار في المرادف المعنوي، فمثلا في قوله:
وتيتموا اطفال كتير                    ومئات من الأسر
ماذا أضافت ((مئات الأسر)) لكثرة الأطفال الذين تيتموا؟ أليس المعنى هو نفسه؟ الصورة هنا تفلت من يد الشاعر لصالح اغراء الحكي والاستطراد الذين وقع فيهما الشاعر، لكنه في بعض الأبيات النادرة يظهر قدرة على تملك التعبير، يقول:
عبارة هلكانة وقديمة                          للغلابة تكون تابوت
تصاريح غلط .. شهادات غلط                وبدولارات وبدون فحوص
واعمل نعوش جو اسفن                       وغطي بالرموش على ناس لصوص
وبغض النظر عن تشابه تحول السفينة لتابوت والواردة في عجز البيت الأول من المقطع السابق، مع ((عمل نعوش)) الواردة في صدر البيت الثالث، إلا أن هذه الحزمة من الأبيات أقل الأبيات التي تظهر فيها مشكلة اضطراد الترادف، ولعل الترادف يصل ذروته عندما يقول الشاعر:
ايه الفق بينهم وبين شارون           وبين صهاينة أشقياء
فهل يصنف الشاعر شارون على أنه نوعية أخرى غير الصهاينة حتى يعقد نويعن من المقارنة بين الحكومة التي تقتل بالإهمال والفساد أولادها، والحكومة التي تقتل بالسلاح والعتاد أبرياء للحفاظ على أولادها، بيد أننا كعرب نحن المقتولون في كلا الحالتين.
في قصيدة ((حوار ساخن بين الحكومة والمواطن)) اختار الشاعر لنفسه مهمة شاقة، فهو اختار أن يجري حوارا يستنطق فيه كلا من ((الحكومة))، لينوب عنها شاعرنا في القصيدة رغم تعدد مؤسساتها، ووجهات نظرها المختلفة، وأيضا يستنطق ((المواطن)) كممثل أيضا لكل فئات المواطنين المطحونين الذي لا يجدون عملا أو خدمات أو رعاية، والمهمة الشاقة في هذه الفكرة أنه من السهل جدا بلورتها في مقالة أو أي فن من فنون النثر، لكن عند دمجها في القالب الشعري فإن عبء التخييل سيصبح صعبا، فالشعر تفكير بالصور أساسا، كل ذلك يجعلنا ننطلق صوب النص ونحن نسأل أنفسنا: ما التقنيات الشعرية والتخيلية والتصويرية التي سيتبعها الشاعر للتغلب على خطابية موضوعه الذي اختطه لنفسه؟
في مواجهة هذا التوجس سنتفاجأ بأن طاقة التخييل في النص الشعري الطويل إلى حد كبير لا تستطيع أن تكسر خدة الخطابية والتقريرية بين ((الحكومة)) و((المواطن))، ليتحول الأمر إلى سجال عقلي أكثر منه إلى طاقة من الابداع والتخييل، فقد كان مطلوب من الشاعر أن يعيد صياغة هذا السجال بقالب من المجازات والصور، تماما كما شاهدنا في محاورات سابقة وتاريخية في الشعر العالمي، كمحاورا أفلاطون أو أبيقور، أو حتى في شكاوى الفلاح الفصيح الذي كان يفند في كل شكوا حجة أو ردا جائه من قبل، فمثلا تقول الحكومة عند ((يحيى جوهر))
أنا اللي دخلت المجاري
ونورت الشوارع والحواري
وأنشأت المصانع والكباري
ووفرت التعليم بالمجاني
وبعد كل ده ترميني بالشكاوي
يبني الشاعر منطقية قصيدته عبر تقديم الحجة ونقض الحجة فيما يليها، وبدلا من أن يحاول الوصول للفكرة عن طريق جوانبها التصويرية، يعتمد فقط على مقدار صدى الفكرة لدى الجمهور والمتلقي، أما القار الخبير فقد كان يبحث عن الفكرة متضافرة بالصورة، أما القارئ العادي فهو يبحث عن تعاطف المؤلف مع هموم المواطن، ويبدو أن الشاعر انحاز للقارئ الذي ستتغير نظرته للمواقف لو تحسنت الأمور قليلا، بينما الطاقة الابداعية لو وضعها في نصه لكان ضمانا لتحول النص من بيان شعبي عن هموم ومشكلات إلى رؤية مبدع تتجاوز الواقع والمكان والزمان لتصبح متعة ابداعية في أي مكان وأي زمان، ذلك ما نتمنى أن ينجح في تحقيقه شاعرنا في أعمال قادمة.

الديوان الرابع: ((بنص عمري أعيش)) للشاعر: ((أحمد بكري العنفصي))

من المبادئ الهامة للجملة الشعرية عنصر التكثيف، فبعكس الفنون النثرية التي تقوم على الإسهاب والوصف كالرواية مثلا، تقوم العبارة الشعرية على الاقتضاب مع القدرة على توليد أكبر كم ممكن من المعاني من أقل الألفاظ والكلمات، وهي السمة التي تلاحظ غيابها في ديوان ((بنص عمري باعيش)) للشاعر ((أحمد بكري العنفصي)) فمنذ بداية الديوان مع قصيدتع التي حمل الديوان عنوانها نجده يقول:
كل ذرة
صبر ما لوش أخر
وأحزان في القب بتداخر
ماشية ف عروقي
حرقة قلبي عليك
ما ليها أول من آخر
دي .. العشرة مش بالساهل
دنا .. أستاهل
لقد أغرت الموسيقى والتلاعب اللفظي الشاعر في الانسياق وراء الجناس: (أخر ـ بتداخر ـ أول من أخر) ثم (الساهل ـ استاهل) وفي زحمة الإيقاع والموسيقى تناسى الشاعر المعاني المتولدة داخليا، فالشعر العامي والحر بعامة يبني شاعريته بشكل أساسي عن طريق روعة الصورة، وليس سلاسة الصياغة وسهولة العبارة، والصورة هنا مقارنة باسهاب الوصف بحاجة ماسة إلى إعادة الصياغة من جديد.
وبالمنطق نفسه يستمر الشاعر في قصيدته تغريه امتلاكه لقدرات السجح والجناس، وتفلت الصورة والفكرة منه، يقول:
دا انا
عمري ضايع ف النسبة
رفعت وخسيت كشيت
احضني مرة كمان البد فيا
خدرني .. فين رجليه
خفف عني جمر الشوق
ورغم ما كان يمكن للنص أن يصل  إليه عن طريق جذور الفكرة التي طرحها الشاعر حول مخاطبة المحبوب وامنيات اللقيا، إلا أن الصورة التي تتشكل سرعان ما نجد أنها تضعي منا، ويصل الأمر ذروته عندما يقول:
اعزقني وبعزقني ف دمك
خلطني اشركني ف همك
كرمشين وسربني وسربني
وجوه ضلوعك رسبني
تتزاحم هنا الألفاظ المتلاحقة التي تعمل على تشتيت القارئ والقصيدة، وتضعف من تواصله مع النص، تجعل من الصعب عليه متابعة الصورة الكلية المتشكلة والمعني العميق الذي يخاطب الوجدان، ولا نجد في مقابل الألفاظ المتداخلة التي تضغط على الأذن، معاني مكافأة في القوة تفتح الوجدان للتلقي.
وربما تكون قصيدة ((طلع النهار)) من القصائد التي حاول فيها الشاعر أن يقيم توازن بين الصورة والجرس اللفظي الموسيقي، يقول:
تتدارى في جفون الزمن
تسكن سراديب المحن
خيوط الأحزان متعطرة بالحسك
مترشرشة بوهج النار
نايمة في جوف اللزج
وتتضح هنا قدرة الشاعر على توظيف النص، وعلى تقديم الصورة الشعرية المتراكبة المعبرة عن قهر الزمن، فتراكيب مثل: (جفون الزمن، سراديب المحن، خيوط الاحزان، متعطرة بالحسك) كلها تعبر عن قدرات هائلة من التعبير، كما أنها تخاطب التداعي النفسي الشعوري للقارئ حول تجسد مقدار الألم الذي يشعر به القارئ في جو القصيدة، لكن سرعان ما تشعر أنك تسير في طريق ممهدة وفجأة تجد نفسك تصطدم بحجر ثقيل مع قوله: (جوف اللزج))، أين موقعها من الصورة الكلية؟ ما المقصود بها بالضبط؟ هل هي بقوة ما سبق تراكيب تصويرية؟ كيف يمكن فهمها في مجمل النص؟ هذا مثال لما يقع فيه الشاعر من حالة أشبه بحالات التفاوت بين المقدرة وحسن التوظيف، بين الفكرة والسياق اللفظي.
في هذه القصيدة يمتاز التنغيم الصوتي بالتناغم مقارنة بقصائد أخرى، فيها يعتمد الشاعر على سلاسة الإيقاع الداخلي وليس الخارجي، يقول الشاعر:
في انتظار الاختيار
لابسة ثياب الهزم
مشاوير انتحار
دموع الخوف والانهيار
تحفر في قبر الصمت
ده .. بير .. مقادير
وليست الميزة هنا في التكثيف الدلالي وهدوء الجرس الموسيقي فحسب، بل أيضا في قدرة الشاعر على إدماج الصور الجزئية التي يقدمها عبر صورة كلية لا تخالف في مجملها الحالة النفسية والشعورية، وإنما تعزز ذلك، فمع المضي مع السطر الشعري الأول نتخيل أنثى تنتظر أن تختار، وهذا يحيلنا لا شك لمرارة الاختيار وصعوبة تحمل نتائجه ناهيك عن عدم جودة البدائل أحيانا، وأحيانا يضطر المرء للاختيار مرغما، كل ذلك مفتوح في السطر الأول، ثم نمضي مع الثانية لنكتسب معنى جديد به صورة ((ثياب الهزم)) فيعمل الذهن تلقائيا على ربط الصورة بسابقتها ليضيف لهذه الأنثى التي عليها أن تختار اشفاق ان تكون مهزومة، مما يوحي بأنها ليست حرة تماما في الاختيار، وهكذا مع كل مضي كل سطر هو معنى في ذاته، ويضيف معنى جديد لسابقه.
ورغم ذلك لا يستطيع الشاعر أن يتغلب على ميله للمحسنات اللفظية التي تغالبه قدرته على استخدامها، ليعود من جديد فيقدم تلاعب لفظي لكنه في هذه المرة يقلل من قيمة الصورة التي كان يمكن لها أن تتشكل، يقول الشاعر:
ريا أمشير
كما المناشير
تعب ولهب
رعب وقلق
أعوذ برب الفلق
بيعصرني الخوف والقلق
النقاط التي يقدمها الشاعر في محاولة بناء الصورة الكلية هنا تضغط على وعي القاري، ويمكن لنا ان نتخيل لو كان النص متحرر من (تعب ولهب، قلق وفلق ثم القلق)، لو استمر الشاعر يصاعد حالته وصورته التي قدمها ومهد لها لكي تكون متداخلة مع تركيب كلي لمجمل القصيدة، كيف سيكون الحال على تأثيرها على المتلقي؟
ومع ختام القصيدة نقع أمام مجانية مفرطة من التناص مع الموروث الديني باستدعاء قصيدة ((طلع البدر علينا)) تغنيها الحواري للنهار الطالع، الصورة هنا تقدم بدون أية منطقية للتوظيف، ما العلاقة بين النهار الطالع ودخول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم للمدينة المنورة؟ هل هناك معاني متكلفة كان الشاعر يريد أن يقولها لكنه لم ينجح في التمهيد لها، كأن نقول مثلا أن التمسك بتعاليم النبي الكريم هو السبيل لطلوع الفجر، وبزوغ النهار للتخلص من كل ما سبق أن تقدم؟ لكن المشكلة أن السياق ليس فيه ما يوحي بذلك، لماذا كرر الشاعر هذا المقطع الأخير مرتين؟ أسئلة تبقى بدون إجابة، وطالما ظلت بدون إجابة فإن إخفاقا ما يصيب دلالة النص.
إذن تتأكد ظاهرة أن الشاعر يعيش حالة من الصراع بين المحسنات والتناغم اللفظي، والصورة الشعرية، أحيانا ينتصر لصالح التلاعب اللفظي والتنغيم الايقاعي، وأحيانا ينتصر لصالح الصورة الشعرية، وساعة ما يتم الانتصار للصورة الشعرية يكون على حساب المحسنات اللفظية، رغم أن جوهر العملية الابداعية يقوم على توظيف كل منهما لصالح الأخر، يقول الشاعر في قصيدة ((نشيد العنكبوت)):
قد ايه من عمري
فات ومات
والباقي اللي مش جي
عشش يا عنكبوت
جوه قلب الوطن
وأعزف وغني
نشيد العنكبوت
نشيد الموت
وكور .. جناحك
وانسج خيوطك
وعيش وهيش
سنلاحظ على المدى المقدم أنه ساعة ما تتعمق الفكرة تقل المحسنات اللفظية: عشش يا عنكبوت/ جوه قلب الوطن/ واعزف وغني) وسرعان ما يدرك الشاعر أن الإيقاع بحاجة ماسة إلى تدارك، أو كأنه لا يقنع بأن يعتمد على الفكرة والصورة وحدها، فيوعد من جديد لتكرار العنكبوت مرة أخر فيكتب: واعزف وغني/ نشيد العنكبوت) هل أضافت جديد؟ لكن لكي يستقيم التوازن اللفظي مع ما يليها (نشيد العنكبوت/ نشيد الموت) وإذا ما اختزلنا الأسطر الشعرية التي يشير فيها الشاعر إلى فكرة استلاب الوطن ليصبح المقطع: (عشش يا عنكبوت/ وغني نشيد العنكبوت) إذن هناك مشكلة في رسم الصورة، وتشكيل العبارة، فتكرار العنكبوت لم يكن له مبرر، سوى تفضيل الشاعر للتناغم الصوتي أكثر من تفضيله لبناء الصورة الشعرية، سواء الصورة في ذاتها، أو الصورة المركبة على مدى النص؛ لذا حاول بعديها الشاعر أن يشعر القارئ أنه يقدم جديد فأردف (نشيد العنكبوت/ نشيد الموت) دون أن يكون أيضا للموت هنا اضافة حقيقية تسهم في تأكيد المعنى الشعري.

إذن لا بد من أن يقوم الشاعر أحمد بكري العنفصي الذي يقدم لنا دلائل قدرته على امتلاك الصورة والسياق، عليه ن يصل لمرحلة التوافق بينهما، وعليه أن يستخدم قدراته في التشكيل اللفظي على تقديم تشكيلات مناظرة على مستوى الصورة والتخييل، ذلك ما سيعزز من قيمة التواصل مع النص المقدم.
===========

نشرت ضمن كتاب المؤتمر الأدبي الأول لإقليم جنوب الصعيد الثقافي ... أسوان يونيو 2013 صـ211 إلى صـ230

الوعي المتوهم في مجموعة (بريود لمحمد متولي)

الوعي المتوهم في مجموعة (بريود لمحمد متولي(

الناقد والباحث: وائل النجمي
عند مطالعة مجموعة (بريود – صمت انثوي صاخب) لمؤلفها (محمد متولي)[[1]]، علينا أن نعترف بأننا أمام كتابة مختلفة بشكل مختلف، تأخذ الإنسان للأعماق، لكنها كتابة بسيطة، تستدرج القارئ للقراءة، دون أن يشعر، لقد نجح الكاتب في أن يمزج بين حداثية الموضوع (أفق النسوية)، وتبسيط وسائل السرد نفسها، لم يتابع الكاتب الحداثة الروائية في تقنياتها، لم يقدم كتابة ملغزة أو معقدة أو مستكشفة أو رمزية، وإنما كتابة صريحة ولماحة، وربما هي وجهة نظر تحاول أن تتواصل مع القارئ الذي يقبع بعيدا عن ميراث التطور الروائي المدجج بالحيل والتقنيات الروائية الضخمة، خاصة مع السيل الضخم من الدراما الفضائية التي اصبحت بلا شك منافسا حقيقيا لأي قراءة روائية، لكنني أخش أن وجهة نظر الناقد قد تختلف عن وجهة نظر القارئ العادي، فأسلوب الكتابة المباشر بالتأكيد سيحول دون استكناه العمق، سيقف الراوي في الكثير من الأحيان على مشارف فتح النوافذ دون أن ينتظر تبصر الضوء ونتائج مجيء النهار، كما أخش أيضا أن تكون مغازلة القارئ فاتحة لباب التنازل عن ميراث التطور الحداثي وما بعده الذي قطعت فيه الرواية العربية والقصة والأقصوصة أفق رحبة يصعب التراجع عنها الآن.
من ناحية أخرى علينا أن نتعامل بحذر عندما يتم تقديم راوي يتحدث مستترا خلف أنثى بينما المؤلف ذكر، ففي مثل هذه الحالة ثنائية المؤلف/الراوي هي احدى الثنائيات الملغزة، هل من يتحدث هو أنثى حقيقية؟ أقصد هل الوعي الذي يتم تقديمه هو وعي انثوي جوهري؟ أم محاولة تمثيل لوعي أنثوي؟ إن نقاء الوعي وجوهريته هنا محل تساؤل، فيمكن أن يكون ما يتم تقديمه محاولة اقرار ما يجب أن تشعر به الأنثى وفق وجهة نظر الكاتب/الراوي! ومن ثم فنحن لسنا أمام نص نسوي، بقدر ما نحن أمام نص ذكوري، يعتقد بأن الأنثى غير قادرة عن الدفاع عن قضاياها، ومن ثم يحاول النص الذكوري فتح نافذة على الوعي الانثوي مستضيفا إياها بقلم ذكوري يحاول أن يقدم نفسه على أنه نسوي، وإذا ما اعتمدنا تعريفات (لوسيان جولدمان) حول الوعي القائم والوعي الممكن، فإنه يحق لنا بامتياز أن نسائل الكاتب/الراوي عن وعيه الذي يحاول اقامته هنا، وعن الأبعاد التي يحاول تمثلها، بل يحق لنا أن نتشكك حول ما إذا كانت هذه المحاولة هي دفاع عن الأنثوية، أم هي اختزال أخر وجور أخر على الأنثوية بمحاولة توهم أنها غير قادرة على الدفاع عن قضاياها في ظل محرمات المجتمع، وفي ظل صعوبة مواجهة المجتمع ومنظومته القيمية/ الذكورية، باختصار الوعي المقدم هنا هل وعي حقيقي/ أم وعي متوهم؟
نقطة أخرى أيضا من الإشكالات التي تثيرها المجموعة القصصية، وهي ثنائية اللغة العربية/الانجليزية، فاستعارة مفردات انجليزية للعنونة القصصية جاءت بتوظيف فني أحيانا، ظهر عندما استعار المؤلف اللفظة الانجليزية Period [[2]] للدلالة على الدورة الشهرية، بدلا من مقابلها العربي، كتشخيص لما تستخدمه الفتيات والسيدات للهروب من المقابل العربي من هذه الكلمة، التي تثير لديهم العديد من المشاعر والانفعالات والقيود الاجتماعية/الدينية أيضا، ومن ثم كانت الاستعارة الانجليزية هنا موفقة، وبغير توظيف فني أحيانا أخرى، ففي Concert و Hypotension و Invisible، لم يكن استدعاء اللغة الانجليزية موظفا فنيا، فأولا ليس هناك داعي للهرب من لفظة (حفل موسيقي) للكونسيرت، خاصة أن الكونسيرت تثير في الثقافة العربية الحفلات السيمفونية الاوبرالية المعروفة، بينما كان نوع الحفلة التي ذهبت له الفتاة أشبه بحفلات الكاريوكي، فماذا أضافت هذه اللفظة الانجليزية للوعي والتأويل؟ واستخدام هيبوتينشن بدلا من انخفاض ضغط الدم، وانفيزبل بدلا من غير مرئي، لا اعتقد أنها كانت موظفة فنيا في المجموعة.
ويبدو أن علينا أن نبدأ من عنونة المجموعة، من اختيار (بريود) لها عنوانا، خاصة أن العنوان يقف كاملا كموازي للعمل الفني بأكمله، ورغم تنوع القضايا التي تم تناولها في المجموعة، إلا أن الكاتب آثر تسمية المجموعة كلها باسم القصة الثامنة منها، ورغم أن العنوان في حد ذاته يعد صادما للمنظومة القيمية الاجتماعية، ومن ثم يصبح النص مقدما ذاته على أنه أحد مقتحمات التابو، إلا التأمل في تحليل القصة يجد أن الكتابة تقف عند حد الاستكشاف، عند حد التلميح دون التعريض، فرغم أن الاستدعاء للدورة الشهرية سيفتح في أذهان القراء العديد من القضايا، والتي منها: اختلاف ألم الدورة الشهرية بين المتزوجة وغير المتزوجة – ومن ثم كان هناك أفق أمام النص لتناول قضايا العنوسة، وقضايا: النظرة الاجتماعية والدينية للدورة الشهرية، وقضايا: الأعراض الفسيولوجية وما تتعرض له السيدة أو الفتاة خاصة إن كانت في محيط عمل عند مفاجأة الدورة الشهرية لها أحيانا دون سابق قيد أو انذار، وما يسببه الحرج بعامة من الحديث أو التلميح لهذا الموضوع، أيضا بما أن الكاتب اختار التعرض لسيدة متزوجة تفاجئها الدورة الشهرية الأولى بعد زفافهم، فهناك أيضا باب التعجل على الانجاب، ففي موروثات الريف والمجتمعات الصعيدية وغيرها، تحمل الدورة الشهرية الأولى بجانب ألام عدم الانتظام ألام أخرى، وهي رغبة الأهل في سرعة الانجاب، وتقاس في بعض المجتمعات الفحولة والأنوثة نفسها بحدوث الحمل من أول يوم زفاف، كل هذه أفق كان يمكن فتح الباب لها، لكن الباب اقتصر على أمر أخر، هو أيضا ليس أقل أهمية مما تم ذكره، لكنني  أرى أن تناوله لم يكن عميقا بالدرجة الكافية.
إن التيمة المميزة للمجموعة هي محاولة استكناه ما يدور بداخل الأنثى من حوارات، ويطول المونولوج الداخلي لأبطال المجموعة، وفي أغلبها مستنكرة للرجال الذين لم يستطيعوا أن يفهموا ما يدور بداخل نسائهم، تقول الساردة: ((تصمت للحظات ثم تُضيء عيناك ببريق عجيب، تُحيط رأسي بذراعك وتُقبِّل جبهتي المبلَّلة بقطرات من العرق البارد، لا تبدو على وجهك أي مظاهر  للاشمئزاز، رغم أنك تتقزز من تقبيل أي وجه يكسوه العرق. تنهض مُسرعًا، ثم أسمع صوتك يهتف قائلا “أيوة يا ماما، الحمد لله، بقول لك إيمان عندها البِريود وتعبانة أعمل لها إيه؟” تصمُت برهةً ثم تقول: “عندها مغص جامد ووشها أصفر وشكلها تعبان، لا يا ماما المسكنات بتتعبها زيادة” تصمت ثانيةً، ثم أسمع صوتك مُدافعًا عني بقوة “حرام عليكي يا ماما دي تعبانة بجد”. والدتك تكرهني. أعرف أنها تكرهني، لكني أحبها لأنها أنجبتك، جعلتك رجلا جميلا رقيقًا، أحبها لأنها صنعتك، لو كنت ولدي لبغضت تلك المرأة التي ستأخذك مني.))[[3]]

لقد كان الأفق المشيد هنا هو صراع الزوجة/الأم، صراع الفهم/عدم الفهم لطبيعة الدورة الشهرية لدى الزوج/الرجال، صراع القبول/الرفض للمرأة وهي في مرحلة من مراحل حياتها الطبيعية، تلك المرحلة التي كانت في وقت من الأوقات مقدسة في تاريخ البشرية، ففي القرون الأولى كان ينظر لمرحلة الدورة الشهرية على أنها مرحلة لها خصوصيتها لدورها في الانجاب واستمرار الحياة، لكن مع المضي أكثر، ومع تحول الآلهة الوثنية بالتدريج إلى الذكورية بدلا من الأنثوية، بدأ النظر للدورة الشهرية نظرة الاشمئزاز – وهي نظرة تربطها الغائية والنفعية من الانثى باعتبارها أداة للشهوة والانجاب فقط – وبما أنها في هذه الفترة لا يمكن الاستفادة منها في أي من ذلك جاءت هذه النظرة التي لها أيضا سياق اجتماعي، وميراث طويل، وتنته القصة عند حدود قيام الزوج بعمل مشروب من القرفة والنعناع للزوجة، وبأسلوب لغة شفاف يعيد أذهاننا للكتابة الرومانسية التي اختفت منذ عهود في السردية العربية، للتأكيد على رغبة التلاحم والتواصل بين الأنثى والرجل.
ولن يختلف الحال كثيرا في اللغة والاسلوب في بقية المجموعة، إذ يمكنني أن اقسم موضوعات المجموعات بين أربعة أقسام رئيسية، الأول منها هو الأنثى التي تبحث عن محبوبها ولا تجده، أو تحلم أن تجده، أو لا تعرف بالضبط إن كانت وجدته أم لا، وقد ظهر ذلك في أقصوصة (كونسيرت) صـ11، التي تذهب البطلة لحفلة غنائية، وبينما يتحدث المغني ذا الأوصاف الطفولية والجمالية المبهرة، عن محبوبة مضت، يقابلها فجأة ويحتضنها وكأنها هي محبوبته التي مضت، ثم يتركها ويمضي لتغرق هي في صراع نفسي كيف سمحت له بأن يحضنها بهذا القدر، وكذلك الحال أيضا في أقصوصة (صمت الجدران) صـ19 التي تشهد على فتاة كانت تعيش حياتها بين هذا وذاك، لكنها مرة واحدة أصبحت لرجل واحد، تكتفي فقط بمجرد السهر من أجله والنظر له طوال الليل لتأمل جماله، وتغرق هي نفسها في حيرتها عن سر تأثرها بهذا الرجل دون غيره. و(لعنة) صـ75، والتي لا تعرف البطلة إن كانت تحب محبوبها أو هي متعلقة به فقط أم ماذا؟
الثاني: البعد الثقافي، والسياج المفروض على الأنثى الذي قد ينجح بعض الرجال في فك طلاسمه، في الوقت الذي يصر فيه المجتمع على استمرارية هذا السياج، ويفشل الكثير من الرجال في فهم هذه الطلاسم ومثال ذلك: (بريود) صـ51 وقد تقدم التعليق عليها، و(لوح ثلج) صـ27 والتي تحاول الأنثى ان تعبر عن مشاعرها الجياشة لمحبوبها لكن خجلها يمنعها في الوقت الذي يتسمر الزوج يتهمها ببرود المشاعر، وكذلك الأمر في (لما يحصل نصيب) صـ39 والتي تتحدث عن محاولة فتاة الصبر على حماقة رجل متقدم لخطوبتها، ويخوض معها نقاشا مريرا لكنها كافحت لكي تمر الجلسة بسلام دون أية صدامات، وأيضا (ضغط منخفض) صـ31 وهو مشهد لسيدة في سيارة مع زوجها لكنه لا يشعر بها اطلاقا وهي في حالة اختناق دائم، وكانت تتمنى أن يشعر باحتياجها لفتح زجاج السيارة. و(نقطة على الطريق)صـ35  التي تغرق فيه الأنثى بشعور جارف من الحب والهيام بالرجل الذي أمامها، دون أن يصل أيا من ذلك إلى الرجل الذي يجلس أمامها ولا يعرف بما في داخلها، و(شباك قديم) صـ 93والتي تتحدث عن فتاة كانت واثقة في أن محبوبها سيعود، لكنه عاد بعد فوات الأوان جدا.
الثالث: الصدام المجتمعي، ومعاناة الوحدة وعدم القدرة على التواصل سواء في وجود الرجل أو في غيابه، مثال ذلك: (بقايا حلم) صـ 79والتي تعاني من تعب الأعصاب المستمر من


المحبوب، مما يجعلها تقع في صدام مجتمعي بنسيانها تغطية شعرها في خروجها، و(أمنية) صـ57 التي تعاني فيه البطلة من وحدتها ومن بقائها منفردة دون رجل لها، و(شرفة نصف مغلقة) صـ73 التي تحمل معاني من الرمزية قليلا حول الجسد المثقل وتعلق البطلة برجل توحي القصة أنه مفارق الحياة، بينما ما يزال هناك أمام الشرفة من يرغب في التواصل معها، و(نافذتان) صـ 61 وهي عن زوجين يعيشان معا، لكن الزوجة قررت أن يكون كلا منهما منفصلا عن الاخر، يعطيان صورة بالنجاح والحياة السعيدة، لكنهما في النهاية نافذتان لا يطلان على بعضهما البعض، كل منهما تفتح على شيء أخر، و(غير مرأي) صـ 69 والتي فيها تتساءل البطلة لماذا تبدو وكأنها غير موجودة للرجل الذي يفضل عليها اجنبية. و(صورة) صـ23 التي تحلم فيه احدى الفتيات بقص شعرها تشبها بالممثلة ميج رايان والتي رغم اعجاب الجميع بهذه الممثلة إلا أنهم يرفضون أن تمارس هذه الفتاة حريتها في أن تقوم بقص شعرها، وعندما تأتي لها الفرصة لفعل ذلك تتراجع في أخر لحظة.
الرابع: الأمومة، وقضايا الأمومة متمثلة في الفقد، وإن كان مؤقتا بالذهاب الأول للروضة في قصة (اليوم الأول) صـ 65 أو الفقد الدائم أقصوصة (قلب فارغ) صـ83 للأم التي مات ابنها في حرب اكتوبر، والتي تم تزييل القصة بمقولة السادات عن الأيام التي سيتم فيها حكي ما حدث في الحرب، بينما يحتوى الأم شعور متناقض مختلف عن ذلك تماما، تتمنى فيه لو عاد ابنها لبطنها ثانية.
وما بين مضي الحياة، والأمومة، والمشاعر المتضاربة، ومضي السنين، تقف أقصوصة (سفينة بلا شراع)صـ87 والتي تحكي عن جدة يأتي لها احفادها برسائل من البحر، كانت قد رمتها من قبل في حكايات أخرى، وزمن أخر وبمشاعر مختلفة، ليتركها احفادها تغرق في البحث عن ذاتها من بين ذكرياتها.
هذه التنويعة من المشاعر والعواطف والأحاسيس، المروية جميعها من وجهة نظر أنثوية، عبر مجموعة قصصية تحاول أن تفتح الأفق ربما لمشكلات المرأة، أو ربما لمشكلات عدم تناول المرأة، لكنها في كل الأحوال تنبه إلى أن هناك حالة من عدم التواصل بين الأنثى والرجل، وبين الأنثى والمجتمع، هل كانت هذه المجموعة تريد أن تكون الجسر الذي يحدث على أساسه الوسيط؟ ربما، لكن الأكيد أن محمد متولي اكتشف أفق جديدة للكتابة، وعالم رحب جدا، لكننا ما نزال بانتظار عمق الرؤية وحبكة أكثر استلهاما وأوسع أفاقا مما تم تقديمه في هذه المجموعة.



[1] - صادرة عن دار الربيع العربي، وقد حققت أرقاما قياسية – وفقا لدار النشر، ولقياسات جوجل ريدر – في مبيعات معرض القاهرة الدولي للكتاب.
[2] - من الطريف أنه حتى التسمية الانجليزية Period هي أيضا تحمل نوعا من الكناية، وليست  تصريحية عن الدورة الشهرية، فهي تعني الفترة أو المدة، ولا تعني الدورة الشهرية إلا اصطلاحيا، وبهذا تقف اللغة الانجليزية مثل العربية بدون تسمية حقيقية لهذا الحدث وإنما بتسمية أحد عناصره وجوانبه، بعكس تصريحية اللغة الإنجليزية في مواضع أخرى.
[3] - مجموعة بريود: صـ52-53.



مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان)

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان) بحث: الناقد وائل النجمي يعد مفهوم "وحدة القصيدة" من المفاهيم اله...