الخميس، 24 أبريل 2014

«أزمة النقد»: حفريات تاريخية - بدايات جديدة

«أزمة النقد»:  حفريات تاريخية - بدايات جديدة

الناقد الباحث: وائل النجمي
النقد العربي أحد الروافد الثقافية الأساسية للهوية العربية؛ فهو دال على حال العرب وتختزل فيه ترجمة أفكارهم، ويعكس كد وجهد قرائحهم – خاصة بعدما ورث النقد الفلسفة مع النظرية الأدبية المعاصرة. ومن ثم فإن النقد - باعتباره أداة للتطوير، عندما نتحدث عن أزمة فيه يستوجب الأمر اهتماما خاصا. وتثبت الملاحظة شيوع النظرة للنقد العربي باعتباره مأزوم؛ دون أن يكون هناك تحديد دقيق لأزمته؛ لذا سأحاول هنا على نحو «اجرائي – تاريخي» تشخيص أزمة النقد العربي بتقديم حفرياتها الأولى ثم العودة للمشهد الراهن، الذي يبدو من وجهة نظري أنه ينطلق نحو أزمة جديدة.

1-1 مفهوم الأزمة:

تُعَرِّف القواميس اللغوية لفظة "الأزمة" بالشدة والقحط والضيق والاطباق[[1]]، لكن معانيها السياسية والاقتصادية تشير إلى تغيرات تحدث فجأة تؤدي إلى خلخلة وعدم استقرار في الأركان الرئيسة للمنظومة مما يهدد بقائها، ويُوجِد وضعا خطيرا يمثل نقطة عدم اتزان، تجعل الوضع القائم وضع تحول يتعلق بالمصير، وترتبط غالبا بنقص في المعلومات، أما لو كانت الظروف الطارئة أقل حدة بحيث لا تصل لتهديد البقاء فإنها مشكلة، أو فاجعة أو غيرها من المسميات الأقل حدة في الخطورة، وجدير بالذكر أن مصطلح الأزمة (Crisis) مشتق أصلًا من الكلمة اليونانية (KIPVEW) بمعنى لتقرر (To decide)، وهي لفتة دالة إلى أن الأزمة تحتاج دائما إلى حلول سريعة وتدخلات حتى نستطيع الوصول إلى اتزان المنظومة، وضمان تحولها إلى أقرب نقطة استقرار بأقل خسائر ممكنة.[[2]]
ولا نجد في المصطلحات الأدبية والنقدية تعريفا أو تأريخا لمصطلح "أزمة" (Crisis) – في حدود اطلاعي؛ وإنما هناك عصور قوة وعصور ضعف، مراحل تطور وتقدم. ما الذي يجعل مصطلحا متعلقا بعلم الإدارة والسياسة أو الاقتصاد يشيع في ثقافتنا العربية للتعبير عن ممارسة أدبية- نقدية لا يوجد في داخلها تعريف للمصطلح؟ ويبدو أنه سؤال جوهري يرتبط بمجمل الأوضاع المتردية التي تعيشها الأمة العربية، فكأن المصطلح انعكاس لأزمات أخرى أكثر حدة، وأكثر تجاهلا مثل أزمات المصير والوجود والحرية والتقدم، وصراع الحضارات وصراع الأجيال وغيرها من الصراعات في هذا العالم المتغير.
سنحاول إذن أن نُقرِّب المصطلح إلى أقرب مفهوم ثقافي/فلسفي يمكننا الاستفادة منه، وإذا كانت جلَّ تعريفات "الأزمة" تشير إلى حدوث خلل والنظر للأزمة باعتبارها نقطة تحول من شيء إلى شيء آخر، فإن المصطلح الأقرب من المجال العلمي والفلسفي هو "القطيعة المعرفية" لـ((جاستون بشلار))، والذي يقوم على فكرة أن العلم يطور ذاته عبر انقلابه على مفاهيمه القديمة وتأسيسه مفاهيم جديدة، فهو لا ينمو بالتراكم كما قد نظن، فالنظرية النسبية هي انقلاب على المفاهيم القديمة، وبالتالي هي قطيعة مع كل ما كان يُعْرَف سابقا من مفاهيم علمية فيزيائية، وهي قطيعة تتم عبر البناء على المفاهيم القديمة من ناحية، وصياغة مفاهيم جديدة من ناحية أخرى. وقد نقل الدكتور ((محمد عابد الجابري)) المصطلح للثقافة العربية، لكنه أكسبه بعدا أخر خاصة مع دراسته للقطيعة مع التراث، فهنا لا يعني الحال الانفصال تماما عن التراث، وإنما يعني فهمه بشكل مغاير، بشكل غير تراثي، بشكل يتناسب مع ما بين أيدينا من متغيرات من ناحية، ويستلهم ما في التراث من جوانب لا يمكن المضي للمستقبل بدونها من ناحية أخرى[[3]]، وليس هنا مجال التوسع في مناقشة ذلك.
لكنني أوضح أن ما أطرحه هنا محاولة فهم أزمة النقد العربي، منذ ثمانينات القرن الماضي، على أنها إشكالية "قطيعة معرفية" غير مكتملة، بدأت مع بدايات عدم استقرار المنظومة النقدية بمحاولات تحديثها بروافد أكثر عصرية من النقد الاجتماعي، ثم استمرت إلى الآن؛ بل – كما سأجادل تتشكل الأن أزمة جديدة مضاعفة ومتراكمة. مما يجعل المفاهيم النقدية التي بين أيدينا الآن في حالة عدم استقرار، فهي مختلفة عن المفاهيم السائدة قبل فترة من الآن – ربما أكثر وضوحا، لكنها ليست مستقرة على النحو المطلوب، فعلى ما يبدو لا تؤسس وعيا عميقا يصلح لأن يُكَوِّن عتبة استقرار للانطلاق نحو مرحلة تالية نلمس فيها تجاوز أزمة الأولى، واستقرار الممارسة النقدية/الثقافية بشكل عام.

1-2 تشخيص الأزمة:

لعل التجلي الأكثر بروزا لمظاهر عدم استقرار المنظومة النقدية - الثقافية العربية، وجود ممارسة نقدية: نظرية وتطبيقية - عريضة لا تجد من يفهمها من القراء العرب، بل ((نجيب محفوظ)) نفسه أعلن من قبل أنه لم يستطع فهم شيء من النقد البنيوي الذي قدمته الدكتورة ((هدى وصفي)) عنه في مجلة فصول النقدية في عددها الثاني الذي صدر في يناير (1981م)[[4]]؛ وذلك لا شك مؤشر لعدم الاستقرار، وإذا ما أضفنا لذلك تعليقات العديد من القراء والأدباء في مختلف البلدان العربية، والتي تعكس ضعف تجاوبهم مع الرسومات والشروحات البيانية حول الأعمال الأدبية التي يتم نقدها باستخدام منظومة النقد المعاصر، فإننا يمكن وضع أيدينا على تشخيص وتعريف واضح للأزمة في مجال النقد العربي.
إذن فلنقل أن بلورة الأزمة: وجود ممارسة نقدية لا تلق تجاوبا جماهيريا، ولا سندا من المبدعين أنفسهم، فالمتلقي لهذ النقد لا يشعر أنه يخرج بفائدة أو قيمة منه تُيَسِّر له عملية تأويل العمل الأدبي، أو تمكن المبدع من تطوير ذاته والوقوف على أوجه الضعف والقوة في أدبه، وفي الوقت ذاته لم تعد الممارسة النقدية التقليدية مثل التي كانت موجودة قبل هذه المرحلة تلق قبولا أو اهتماما؛ لذا هو وضع متوتر يمثل حالة صراع مستمرة بين النقد الحديث الذي لا يجد من يتجاوب معه أو يفهمه من عامة المتلقين، وبين النقد القديم الذي يختفي ولا يستجيب لتطور الأدب ذاته، وفي القلب من ذلك تقف قضية العلاقة بين الثقافة العربية والثقافة الغربية، والعلاقة بين التراث والحداثة، والتقليدية والمعاصرة، كأطر محفزة ومنشطة لاستمرار حالة عدم الاستقرار، ولتكريس "الأزمة".

1-3 الأسباب:

إذا كان أديب بقيمة ((نجيب محفوظ)) لم يتجاوب مع مثل هذا النقد فإلى من إذن يتوجه النقاد بكتاباتهم؟ وما الداعي لوجود نقد مختلف من حيث الآلية والأسلوب عما كان سائدا في السابق؟ لتحديد الإجابة عن هذه الأسئلة فإنه من الأهمية بمكان تحديد نقطة البداية في عدم استقرار المنظومة النقدية، وهي التي تبدأ من المفارقة الناشئة عن حالة ما لاقاه النقد الاجتماعي منذ عشرينات القرن الماضي من صدى وتجاوب وتفاعل، حتى وصل أوجه في الستينات لتتواجد ممارسة نقدية اجتماعية على أيدي نقاد مثل: ((محمد مندور)) - في مرحلته المتأخرة، و((محمود أمين العالم))، و((عبد العظيم أنيس))، و((لويس عوض))، و((حسين مُروة))، و((محمد مفيد الشوباشي))، و((رجاء النقاش))، وغيرهم، وقد استمرت هذه الممارسة حتى مع الهزة العنيفة لهزيمة 67- وإن كان بشكل بدأ يخفت تدريجيا-، استمرت في الوجود بدون منافس تقريبا على الساحة النقدية، إلى أن جاءت التحولات الاقتصادية مع الانفتاح الاقتصادي في (1974م)، فحدث إطلاق قانون الاستثمار والمناطق الحرة، والتحول الاجتماعي نحو الرأسمالية، وما صاحب ذلك من إعطاء الضوء الأخضر لمهاجمة المرحلة الناصرية، ومهاجمة التوجهات الاجتماعية، وفي ظل ذلك واجه النقاد واقعا صعبا؛ إذ عُزِل الكثير منهم، واضطر بعضهم إلي السفر، سواء إلي أوربا أو إلي البلاد العربية، ومن لم يسافر عكف علي ذاته أو هاجر إليها ــ بتعبير الدكتور ((سيد البحراوي))[[5]] - وهو ما أوجد حالة من الفراغ في الممارسة النقدية، وبالتالي أوجد حالة من عدم الاستقرار في المنظومة النقدية بتفريغها من نقادها، في الوقت الذي كانت فيه النزعة العلمية والمشكلات المنهجية تُطرح بشدة في الساحة العربية كرد فعل لحالة عدم الفهم السائدة للموقف العربي بعد حرب اكتوبر (1973م)، فالمفاوضات أربكت الرؤية المنتصرة على العدو الصهيوني.
لكن الحال لم يكن مشابها علي المستوى الابداعي في الأدب؛ إذ كان هناك طرح أدبي قوي، له سماته الخاصة، يقول الدكتور ((غالي شكري)): ((وكانت المفارقة طيلة السبعينات أن هناك أدبا جديدا في مصر ارتاده شباب الستينات، وأضافت إليه أجيال جديدة بعض الملامح، ولم يجد من التحليل والتقويم والمتابعة الدقيقة الصبورة ما يبلور اتجاهات نقدية واضحة.))[[6]]؛ إذن هناك فراغ نقدي في مواجهة طرح إبداعي جديد ذي ملامح مغايرة، فهناك مبدعون مثل: ((إدوار الخراط))، و((سليمان فياض))، و((صنع الله إبراهيم))، و((غالب هلسا))، و((جمال الغيطاني))، و((يحيى الطاهر عبد الله))، و((إبراهيم أصلان))، و((علاء الديب))، و((بهاء طاهر)). وهناك الموجة الإبداعية التالية التي تمت مع السبعينات، من أدباء أمثال: ((حلمي سالم))، و((رفعت سلام))، و((محمد فريد أبو سعدة))، و((حسن طلب))، وغيرهم في مجال الشعر. و((فتحي إمبابي))، و((نعمات البحيري))، و((هالة البدري))، و((يوسف أبو رية)) وغيرهم في مجال الرواية والقصة. وفي المقابل رحل وعُزِل وطُرِد وصمت أغلب النقاد الذين كانوا متصدرين الساحة النقدية من قبل؛ ولا شك أن هذا الوضع كفيل بخلق العديد من المشاكل أمام الممارسة النقدية، وأمام النقاد الذين اضطروا إلي التعامل مع التغييرات الأدبية فيما بعد.
ويبدو منطقيا في ظل هذه التغيرات أن يتوجه النقاد الجدد إلي نظريات نقدية أخرى غير التي كانت موجودة سابقا في مخزون الممارسة النقدية العربية؛ نظرا لطبيعة المشكلات الأدبية والإبداعية التي فرضت عليهم استجابة تجاهها، مع الأخذ في الاعتبار طبيعة التغيرات السياسية- الاجتماعية التي مرت بها الأمة العربية - منذ الهزيمة العسكرية ومرورا بالصلح والتطبيع والانفتاح - من ناحية ثانية، ولِمَا انفتح عليه أفقهم من نظريات نقدية غربية، تعد بتحقيق العلمية، وبها من الإمكانات والصرامة المنهجية ما يوائم مشكلات الأدب الجديد – حتى إن كان منظرو هذه النظريات الغربية الأصليين قد تجاوزوها -، ويفي بالمقتضيات التخصصية الأكاديمية لهؤلاء النقاد من ناحية ثالثة، جاء رد الفعل تجاه ذلك متبلورا في توجه النقد العربي إلي "البنيوية"[[7]] في ثمانينات القرن الماضي.
ومن خلال تأمل هذه الأوضاع فإنه من الممكن فهم سبب عدم انتشار "النقد البنيوي" علي نحو واسع في "النقد العربي" في فترة سابقة عن حقبة الثمانينات رغم معرفة النقاد به. فالممارسة النقدية العربية لم تكن بحاجة إلي نظريات جديدة قبل هذه التغيرات التي أثرت عليها، بل العكس من ذلك هو الصحيح. إذ كانت هذه الممارسة مكتفية وممتلئة بالنقاد ذوي التوجه الاجتماعي؛ وفي ظل هذا الوضع المُسْـتَقِر ليست هناك حاجة إلي توجهات جديدة، فشرط المثاقفة هنا لم يتحقق بعد؛ لذا فإن مما له دلالته في تلك الفترة أن ((محمود أمين العالم)) كان قد نشر في عام (1966م) مقالا عنوانه: ((نقد جديد أم خدعة جديدة؟)) في مجلة ((المصور))[[8]]، قدم فيه "البنيوية" من منظور معادي لها، ينطلق من وجهة نظر ((ريمون بيكار)) في مقاله الذي هاجم فيه ((رولان بارت))، والذي جاء بعنوان ((نقد جديد أم دجل جديد))، وهو العنوان الذي استلهمه ((أمين العالم)) هنا، وبرغم أن "البنيوية" كانت تُعَدُّ النظرية النقدية الأساسية في فرنسا في ذلك التوقيت، وبرغم ما أثارته من جدل ونقاش واسع، إلا أن ((العالم)) لم يتابع التعليق عليها أو تقديمها، مكتفيا بمهاجمتها في مقاله هذا.
إذن التوجه إلى "النقد البنيوي" في النقد العربي كان محكوما بالظروف التي أدت إليه، وليس محكوما بمجرد رغبة التحديث أو النقل أو الاستعارة أو الاقتباس من الآخر الغربي كما قد يتوهم البعض، ومما يؤكد صحة ذلك أنه في الفترة نفسها التي تم التوجه إلي "البنيوية" في النقد العربي، كان هناك نظريات أخرى جاءت بعدها وتعد أحدث منها في خط التطور الزمني في العالم الغربي، وبرغم ذلك لم يتجه النقاد إلي هذه النظريات، ولو كانت القضية مجرد اقتباس ونقل؛ لكان الأولَي أن يتم التوجه إلي الأحدث، لكن هذا لا يمكن حدوثه علي الصعيد الثقافي؛ لكون التلقي محكوم بطبيعة ما تفرضه اللحظة التطورية، وليس خاضعا لمجرد الرغبة في المتابعة والمسايرة؛ لذا لا أوافق النظرة التي يطرحها الكثيرون بوجود مؤامرة على الثقافة العربية عملت على الادخال القصري لمثل هذه النظريات لإخراج الثقافة العربية من هويتها، بل يصل الأمر عند البعض باتهام جهات مخابراتية بالوقوف وراء مثل هذا النوع الثقافي كما هو الحال عند الدكتور ((عبد العزيز حمودة))، ورغم أني لا استبعد وجود رغبة بعض الثقافات في سيادة مفاهيمها وهيمنتها على ثقافات أخرى كعلامة للغزو والظفر الثقافي، ولا استبعد أن تتخذ في ذلك كل السبل بما فيها السبل المخابراتية، إلا أن الشاهد يؤكد أنه يستحيل لثقافة ما أن تقبل في داخلها عناصر غير متوافقة مع احتياجاتها ومتطلباتها، وأنه مهما كانت هناك محاولات قصرية إلا أن الاحتياج الثقافي هو ما يفرض نفسه على المسيرة التطورية في النهاية.
ومن ناحية أخرى، هناك بُعْدٌ يجب أخذه بعين الاعتبار. ففي بداية الستينات من القرن الماضي ذهب الكثيرون من شباب أساتذة الجامعات المصريين إلي أوروبا وأمريكا لدراسة اللغويات، وكان يتوقع منهم بعد عودتهم أن يسهموا في دفع وتطوير اللغويات العربية، لكن للأسف - وكما يقول الدكتور ((عبد العزيز حمودة)) أيضا - لم يستطيعوا القيام بذلك علي النحو المطلوب[[9]]، وهو ما جعل الناقد العربي الذي يحاول أن يتفاعل مع النظريات النقدية الحديثة، ونظرا لطبيعتها الخاصة في اعتمادها علي أصول "الألسنية" و"علم اللغة"، مفتقدا لرصيد هام من تطبيقات "الألسنية" و"علم اللغة" في "اللغة العربية" ذاتها، وهو ما كان له تأثير سلبي من ناحيتين: فأولا: علي الناقد أن يحاول تفادي هذا النقص، وعليه أن يحاول الاستفادة من "الألسنية" في تحليل لغويات النصوص التي سينقدها دون وجود مساعدة من علماء لغة وألسنيين عرب، وذلك وحده ألقي من الثقل علي النقاد ما ألقاه، وثانيا: توجه النقاد إلي قارئ عربي ليس لديه أدني فكرة عن "الألسنية" و"علم اللغة"، فكيف يمكن لهذا القارئ أن يتواصل مع الطرح العربي "للبنيوية" وهو لم يرَ "للألسنية" إنجازاتٍ في مجال اللغة ذاتها، وكيف له أن يفهم حُلم العلمية والمنهجية الكامن في النظريات الأدبية المعاصرة، وهو لم ير ذلك يتحقق علي مستوى البحث اللغوي الذي تستعير "البنيوية" أصولَها منه، وكما يقول الدكتور ((محمد ولد بوعليبة)) فإنه من الصعب وجود ((بارت)) عربي قبل وجود سابق ((لدي سوسير)) عربي[[10]]، فما بالك بقارئ لا يعرف شيئا عن كليهما، أو يرى مثليهما في النقد العربي.
وبهذا الوضع من حالة فراغ نقدية، وقصور في الإسهام الألسني واللغوي من علماء اللغة العرب، ورغبة تعجل شديدة، بدأ طرح "البنيوية" وما بعدها من نظريات نقدية بشكل قوي وعلي نحو واسع في ثمانينات القرن الماضي في مجلة ((فصول)) النقدية، وهذا الطرح نفسه في هذه المجلة تأثر بروح الأكاديمية التي بها الكثير من السلبيات كما يرى الدكتور ((البحراوي))، يواصل قائلا: «وأيا كان مصدر التوجه فقد تم تقديم معرفة واسعة بالنقد الأدبي في العالم الغربي كما سبق القول. غير أن هذا التقديم، قد اتسم هو الآخر بطابع الأكاديمية، بكل مشكلاتها في مصر. فسواء كان هذا التقديم ترجمة لمقال أو عرضا لكتاب أو دورية، أو كتابة عن منهج أو نظرية، فإن الطابع الغالب عليه، كان التبسيط المخل من ناحية، والغموض من ناحية أخرى، وعدم فهم الأصول في كل الأحوال. فمن خلل وتضارب في ترجمة المصطلحات إلي تناقض في الجزئيات، والسياق الذي تنبع منه النظريات وتجيب عن أسئلته، سواء كان سياقا ثقافيا أو سياسيا أو اجتماعيا. وكل هذا أوقع القارئ العربي الذي لا يجيد الاطلاع علي اللغات الأصلية المنقولة عنها والذي أخذته الدهشة والانبهار، في حالة من الصنمية إزاء المقَّدم الذي لا يفهمه.»[[11]].
لذا فقدت "البنيوية" منذ البداية تواصلها مع القارئ العربي، ولا أدل على ذلك من أن كاتبا بقيمة ((نجيب محفوظ)) لم يستطع فهم شيء من النقد الذي قُدِّم عنه في هذه المجلة وفقا لما قاله الدكتور ((عز الدين إسماعيل)) كما أشرت.
ونظرا لكون أغلب من قدموا "للبنيوية" وتبنوها في "النقد العربي" قد تَعَرَّفُوا عليها في سفرهم إلي الدول الغربية في لغاتها الأصلية، وهو ما لم يكن متاحا لباقي المثقفين في الداخل العربي؛ فقد حدث نوع من الانقطاع في التواصل مع "البنيوية"، سواء علي مستوي القراء العاديين، أو علي مستوى المثقفين أنفسهم، تأمل مقولة الدكتور ((حمودة)) التالية: «كان ذلك الانبهار، كما قلت، خالطه طوال الوقت شعور عميق - لم أفصح عنه حتى اليوم - بالعجز: العجز عن التعامل مع هذه الدراسات البنيوية، وفهم أهدافها، بل فهم وظيفة النقد ذاته في ظل المصطلحات النقدية المترجمة والمنقولة والمنحوتة والمحرفة التي أغرقونا فيها لسنوات»[[12]]، وهذا هو حال أستاذ أكاديمي له من الثقل والوزن والمعرفة باللغات الأجنبية ما له، فما بالك بحال القارئ العادي والمثقف أو المبدع الذي لا تتيسر له سبل الاطلاع على المصادر الأصلية.
ولا شك أن كل هذا أثَّر سلبا علي الممارسة النقدية الجديدة التي تصدرت المشهد الثقافي منذ نهاية حقبة النقد الاجتماعي، فأوجد مواقف متباينة تجاهها، وصلت إلي حد التوثين والتكفير وفقا لأسس دينية[[13]] باتهام هذا النوع من النقد بالكفر، وإلي إيجاد رغبة في محاولة إنشاء نظريات علي غرارها، ذات طابع وطني قومي – وربما إيماني![[14]]، وغير ذلك من المواقف التي تناولتها بالتفصيل في مواضع أخرى، لكن الملاحظ أنه حتى في المواقف الرافضة "للبنيوية" كان التأثر بها - بنحو أو بآخر - موجودا وحاضرا، وهو ما يثبت أن التعامل مع الوافد الثقافي يتم بطريقة تفاعلية، وليس بطريقة آلية حتى في حالة رفضه الواعي العمدي المقصود علي ما يبدو، وبالتالي فإني أرى هنا أن في اختلاف المواقف وتباينها من النظريات الجديدة، وفي اختلاف وجهات النظر التي قُدِّمَت حولها من نقادنا، دليلا علي التفاعل، ولا يمكن في هذا الصدد الحكم علي هذه المواقف من منظور الصحة أو الخطأ، وإنما يَجْدُر تحليل هذه المواقف باعتبارها روافد جديدة لمحاولة استقرار منظومة النقد.
فالطريف أنه لم يطلب أيا من هؤلاء النقاد بعودة النقد إلى ما كان عليه في الستينات أو الاربعينات، مما يعزز مفهوم أننا في حالة "قطيعة معرفية" لم تكتمل، ومن ثم فإنني أحدد أسباب أزمة النقد العربي بوجود حالة فراغ نقدية بعد رحيل نقاد الاتجاه الاجتماعي، وتطوير أدباء الستينات والسبعينات لتقنياتهم اللغوية والابداعية بما لم يعد يمكن للنقد القديم احتوائه في أسلوبه التقليدي، وتعرف النقاد الأكاديميون الجدد على الممارسة النقدية الحديثة في الجامعات والأكاديميات الغربية وعدم قدرة المثقف العربي التواصل مع هذه النظريات لعدم توفر مراجعها الأصلية وعدم الأمانة في النقل، وعدم قيام اللغويين العرب بدورهم المنوط بهم في تحقيق طفرة لغوية تحقق المراد، أضف إلى ذلك جرح الكرامة العربية مع العولمة وصراع الحضارات مما جعل البعض يتعامل بمبدأ الريبة مع أية تحركات ثقافية أو اجتماعية تنفتح على الآخر الغربي.
1-4 أزمة جديدة:
قد يكون المتوقع أن أعمد إلى تقديم مقترحات للتعامل مع الأزمة بعدما عرضت لها ولأسبابها، لكن الحقيقة أني أقدم رؤية نقدية تعتمد على رصد الممارسة السائدة في الواقع، وليس على رؤية فلسفية مثالية؛ والرصد الواقعي يشير إلى بداية استقرار المنظومة النقدية في الفترة الأخيرة، فالمصطلحات التي كانت تمثل حجر عثرة في التواصل مع النقد الجديد مثل: "البنية" - "الشفرة" - "التغريب" - "الحبكة" - "التحفيز" - "الدلالة" - "العلامة" - "الاعتباطية" - "السياقات الدالة" - "عتبات النص" - "التبئير" - "المنظور" "التناص" - وغيرها بدأت في الاستقرار والوضوح في أذهان المتلقيين، وبدأت في الاستقرار في الكتابات النقدية والدراسات الأكاديمية، وهو ما يَعِدُ بتحقيق "القطيعة المعرفية" بشكل ناضج وواعي، لكن الآن تتبلور على الساحة النقدية العربية في أرض الممارسة بوادر أزمة جديدة تهدد بعدم دخول مرحلة الاستقرار، تهدد بخسران ما تم اكتسابه من استقرار للمنظومة النقدية-الثقافية، وجذور هذه الأزمة تتمثل في المنتديات الالكترونية وعالم الانترنت.
فالآن يتاح لكل من يشاء وفي أي وقت يشاء نشر أي شيء باعتباره أدبا، وفي المقابل يتاح بالقدر نفسه التعليق والتعقيب على تلك الأعمال المنشورة الكترونيا، وهو ما يوجِد توسعا في قاعدة الممارسة النقدية بشكل لا يمكن حصره ولا يمكن السيطرة عليه، وإذا كانت ثمرة النقد الأدبي أن يمارسه نقاد أصحاب خبرة ودراسة وذوق؛ فإن هذا الوضع يوجد براحا يصعب معه معرفة صاحب الكتابة والتعليق، فثقافة المنتديات ثقافة شعبية وليست نخبوية، ثقافة تخلو من المرجعية، ومع سوء المناهج التعليمية، وضعف القدرة على الاطلاع على الثقافة الغربية - رغم تيسر سبلها في ظل عالم التكنولوجيا - وفي ظل انكفاء حركة النقد العربي على نفسها، فهي لا تحاور الآداب الأخرى، ولا تحاور النقد أو الثقافات الأخرى، وتبخل على نفسها أن تتوجه للقارئ العربي، فهي حركة تخاطب نفسها ولنفسها فقط في الغالب، وهو ما لم يعد موجودا في الثقافات غير العربية، ويكفي أن نذكر أسماء مثل ((امبرتو أيكو)) ((جاك دريدا)) ((رولان بارت)) ((بول ريكور)) ((جوليا كريستيفا)) وغيرهم لنعرف إلى أي مقدار أصبح الأمر الآن عالميا وكونيا أكثر منه محليا، كما أن عدم تقبل الأدباء العرب للنقد، وعدم ترحيب الكثير من الدوريات والجرائد بإفراد مساحات للنقد، وإهمال الاعلام للحاسة النقدية وللدور النقدي، كل ذلك يعد بأننا على أبواب أزمة جديدة أشد تفاقما من الأولى وأكثر ضراوة، فالباب الآن مفتوحا أمام وجود ممارسات نقدية تسير بشكل أكثر سرعة في طريق الانفصال والتقوقع على ذاتها، ولا مناص لمواجهة ذلك إلا بوجود حركة نقدية حقيقية تجعل همها الأساسي التواصل مع الجمهور أكثر من اثبات نخبوية أصحابها، حركة تعمد إلى التطبيق بالتوازي مع التنظير، وتستطيع أن تقدم للقارئ ما يمكنه من تأويل النص، وللمبدع ما يستفيد منه في تطوير نفسه، بعدها يمكن للنقد أن يمض نحو استقلالية ذاته كنص خاص بنفسه، كإبداع ثان موازي للإبداع الأول، وإلا فإننا بإزاء موجة من التنكر لجل هذه الممارسة النقدية تنظيرا وتطبيقا.


========


([1]-) راجع: لسان العرب مادة: أزم، والقاموس المحيط، ومقاييس اللغة المادة نفسها، والعباب الزاخر مادة لمس.
 -[2] محمد صدام جبر: " المعلومات وأهميتها في إدارة الأزمات "، المجلة العربية للمعلومات، 1998، تونس، ص66. وأنظر أيضا:  Random.h.(1969) .Random House Dictionary Of English Language, New York, Random House, P.491.
[3]- د.محمد عابد الجابري: نحن والتراث،  ط6، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، أبريل 1993م، صـ9-18.
[4]- د.عز الدين إسماعيل: أما قبل، فصول مجلة النقد الأدبي، المجلد الأول، العدد الثالث، القاهرة، أبريل 1981م، صـ5.
[5]- أنظر: د.سيد البحراوي: البحث عن المنهج في النقد العربي الحديث، دار شرقيات، القاهرة، 1993م، ، صـ106-107.
[6]- د.غالي شكري: برج بابل: النقد والحداثة الشريدة، ط2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،1994م، صـ119.
[7]- قدمت في كتابي : تلقي البنيوية في النقد العربي: نقد السرديات نموذجا، الصادر عن دار العلم والايمان بكفر الشيخ، 2009م، شرحا وافيا عن البنيوية في الفصل الأول صـ15-90.
[8]- أنظر: د.جابر عصفور: نظريات معاصرة، مكتبة الأسرة، [الهيئة المصرية العامة للكتاب]، القاهرة، 1998م، صـ85.
[9]- د.عبد العزيز حمودة: المرايا المحدبة: من البنيوية إلي التفكيك، سلسلة عالم المعرفة، [عدد (232)]، الكويت، 1998م، صـ143.
[10]- د.محمد ولد بوعليبة: النقد الغربي والنقد العربي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002م، صـ141.
[11]- د.سيد البحراوي: البحث عن المنهج في النقد العربي الحديث، مرجع سابق، صـ107.
[12]- د.عبد العزيز حمودة: المرايا المحدبة: من البنيوية إلي التفكيك، مرجع سابق، صـ13.
([13]-) أنظر: عبد الحميد إبراهيم: نقاد الحداثة وموت القارئ، مطبوعات نادي القصيم الأدبي، ،بريدة، 1415هـ، صـ38.
([14]-) أنظر: د.مصطفي ناصف: النقد العربي: نحو نظرية ثانية، سلسلة عالم المعرفة، [عدد (255)]، الكويت، 2000م، صـ9. 

الثلاثاء، 22 أبريل 2014

قراءة في ديوان موسيقي وحيد لبهاء الدين رمضان

قراءة في ديوان موسيقي وحيد لبهاء الدين رمضان

الناقد والباحث: وائل النجمي
تشعر عند قراءتك لديوان ((موسيقي وحيد)) لـبهاء الدين رمضان أنك أمام حالة خاصة من حالات التجربة الشعورية، يخاطب الشاعر فيها كلا من "وعي"، و "لا وعي" القارئ، صانعا من اللغة نسيجا خاصًا، يغزل من خلالها الأفكار التي رغب في تقديمها، ثم يصنع من هذا النسيج لوحة ذات ملمح مؤثر؛ لذا لم يكن عجيبا أن يستحضر الشاعر قصيدة ((مارجوت شاربنرج)) المتأثرة بلوحة ((الصرخة)) للنرويجي ((أدفار مونش))، خاصة وأن الشاعر اعتمد أيضا على مخاطبة العين في التشكل البصري للكتابة – بحسب ما سيجيء – ومن ثم فإننا علينا أن ننتبه إلى أننا أمام حالة فريدة من حالات استخدام التقنيات وتشكيل الصور والصياغات والألفاظ في هذا الديوان الذي يحتاج إلى قراءة متعمقة يخوضها القارئ ليس بعقله فحسب، وإنما بوجدانه أيضا، وسيجد في الديوان المتعة لكليهما.
وإذا ما تعرضنا لبعض هذه الظواهر في المجموعة الأولى من الديوان التي يسميها الشاعر ((ناي في صحراء الوطن))، وهي المكونة من 6 قصائد، في القصيدة الأولى منها المعنونة بـ((همجي)) يقدم صورة مقلوبة لذلك الوطن الذي يكتب عن الشاعر، ذلك الشاعر الذي يلخص حال الفقر والجدب الذي يعيشه، والذي ضاق به ذرعا؛ فأصبح يهدد بإحراق أطفاله الجوعى؛ لذا يشعر الراوي بالوطن وهو يبكي عليه، ولا يجد الشاعر حلا سوى بث حزنه وبكائه للنيل، أما على مستوى التشكيل اللغوي في القصيدة فإن القصيدة تنبني عبر التقابل بين نقيضين، وقد تعمد الشاعر تقديم الكتلة النصية للشعر بزاوية ما بين أعلى وأسفل لتظهر نصين متقابلين بينهما فاصل هو بياض الصفحة، كتوضيح للأحوال المقلوبة التي نعيشها، ونلمس في القصيدة قلة استخدام المحسنات اللفظية، فالموسيقى تنبني عن طريق الجرس الموسيقي الداخلي والسلاسة اللفظية أكثر مما يعتمد على جرس موسيقي خارجي على الغرار التقليدي.
أما في قصيدة ((قاطع طريق)) فإنها تلخيص لعمر بحاله لرجل بلغ الـ 40 عاما، مسيرة حياة كاملة لا تأتي فيها الحياة طيعة، ولا يجد فيها الفرح و السعادة إلا عبر لحظات مسروقة خاطفة، ورغم العدة التي أعدها الشاعر للحياة من سلاح ولثام وحرائق أحيانا؛ إلا أنه رغم كل ذلك يعيش مهزوما فهو يشعر بأنه يعيش وحيدا، معزولا عن الدنيا وبهجتها وصخبها في كهوف سحيقة، إنها حيادة بدون شيء، بدون نساء أو ماء أو ماعز، وإن كانت اشارة الماعز إشارة مجانية القيمة لا توضح المراد من قصد الكاتب، إلا أن المعنى الاجمالي يدور حول اكتشاف أن الحياة التي عاشها الإنسان ما هي إلا ضحية من ضحايا ذلك العالم الذي نحيا فيه.
ولم يفت الشاعر استخدام التشكل البصري لهذه القصيدة في النص الكتابي بما يجعل النص يرسم منحنى يسير في حركة تقوس من أعلى لأسفل والعكس صحيح أيضا، معززا بذلك لدى القارئ شعور اهتزاز القيمة، وفكرة أرجحة الحياة، فمثلما أن الفكرة المسيطرة على القصائد هي فكرة بلوغ سن الأربعين فإن الخط المعطى للمقطع ((أربعون عاما)) قام الشاعر بتشكيله بخط مختلف عن باقي أنواع الخطوط، وأما التشكيل الموسيقي فإنه لا يختلف في التقنية عن القصيدة السابقة من اعتماد الشاعر على الايقاع الداخلي أكثر مما يعتمد على الوزن بالأسلوب التقليدي.
أما القصيدة الثالثة ((ارق)) فهي تحمل مراوغة بين العنوان، وانسحاب الشاعر من القصيدة للنوم تاركا القارئ في مواجهة الأرق، كأنه يطلب من كل فرد أن يواجه مصدر ازعاجه بنفسه، وبرغم أن القصيدة بها بعض الدلالات المتعلقة بالاحالات العاطفية كالحديث عن الغرفة الممتلئة بالدببة، ومعروف أن الدببة هي رمز الهدايا بين المحبين، إلا أن الشاعر سرعان ما راح يغازل مساءه الطازج، وانسحب من القصيدة، والحقيقة أني لا أجد وصف المساء بالطازج مفهوما لي، وتغيب عني الدلالة التي يقصدها الشاعر من جراء ذلك، وإن كان الشاعر نجح في التشكيل الكتابي في ترك أثر الذبذبة التي يحيلنا إليها بين الأرق والنوم في تقطيع القصيدة عندما يكتبها على النحو التالي: تصبح
                                        على
                                                خير
أما في قصيدة ((الغائب)) فإن العنوان يحيلنا إلى مجهول سيحاول العقل أن يفك رموز هذا المجهول، سيحاول أن يعرف من المقصود بالغائب؟ وفي زحمة التساؤل يبهرنا الشاعر ببداية قصيدته حول بحديثه عن النسوة اللاتي هجرن سريره في إشارة للعلاقات الغرامية، لكنها علاقات بدون خصوبة – ويبقى معنى الخصوبة هنا غامضا – هل هي خصوبة الاجاب؟ أم خصوبة الاشباع العاطفي؟ أم خصوبة الحياة بعامة؟ - كلها إحالات مفتوحة في المعنى وتقبلها تشكيلات المعنى في القصيدة، وفي مقابل ذلك يلمح لنا الشاعر بحالة إخصاء رمزية أو حقيقية لكنها لا شك ورائها معاني شعورية أكثر منها حقيقية حول الإنسان في مواجهة الحياة.
ويمضي الشاعر في أسلوبه السلس ساحبا وعي المتلقي تجاه النساء، ثم تجاه الشخصية التي يريد التحدث عنها – ذلك الغائب – الذي ربما لم يولد بعد، أو ربما هي تناص مع فكرة المخلص، فكرة المنقذ، أو أيا كانت الفكرة فإنها كناية عن تلك القيم والأشياء التي أصبحنا نفتقدها في حياتنا، والتي ستظل غائبة عنا رغم شدة اشتياقنا لها.
أما في قصيدة ((انهزام)) فإننا نلاحظ على الشاعر أنه أحيانا يقع في مشكلة مجانية الصورة والتشكيل، فيقدم تعبيرات تستغلق دلالتها على القارئ، فيقف أمامها المتلقي حائرا، ماذا يقصد الشاعر بقوله:
وأجهز صلصالاً
من حمإ  مسنون
مدهشاً كالعادة
لم يبلغ سن الطحلب
فما المقصود بالحمأ المسنون؟ وإذا اعتبرناها اشارة للإنسان كتناص مع الأية الكريمة، فكيف نفهم تركيب مثل ((سن الطحلب))، ما الاشارة أو العلامة الدالة هنا؟ ما المقصود بالضبط؟ هل يخدم هذا التشكيل المعنى؟ أسئلة مفتوحة لا نجد لها إجابة قاطعة لأن التشكيل الدلالي للمعنى غير قابل للقبض والإمساك به.
أما في قصيدة ((انشطار)) فإن حالة من التناقض التي تعيشها البشرية جميعها هي المهيمنة على النص، حالة لا تناسب على الإطلاق ما وصلت إليه البشرية من وعي وتفكير، مما يجعل سؤالا مثل: كيف نحن معشر البشر بكل ما وصلنا إليه من معرفة نقبل بما يحدث ونراه ونشاهده في أرض الواقع؟ كيف نقبل بالسرقة والنهب والسلب في الحياة؟ كيف ما زلنا لم نحسم هذا الصراع بين الخير والشر؟ أين العقل من هذا اللامعقول المهيمن على الحياة البشرية؟ وكأن الشاعر يتمنى لو أنه تمكن من القضاء على هذا النصف غير الخير وغير المعقول ليقسمه إربا إربا، أو كأنه يريد أن يقسم النصف الخير في كل البشر ليجل منه نصفا أخر يحل محل النصف الشرير، وهو حلم بعيد المنال.
وعند الانتقال للمجموعة الثانية من مجموعة قصائد الديوان، والتي تحمل عنوان: ((القصائد الأطلسية))، فإن القصيدة المعنونة بـ((قصائد الفجيعية)) ))، يقول فيها الشاعر:
الفجيعة في القلب
هي نفسها
الغابات في فصل الصيف ....
والصعيد في الصيف ...
تفتت العظام
وتتلبس الساعات
يعرب إذن الشاعر عن ((الفجعية))، عن الوجع، ذلك ما يتغنى به هنا، فهو يشعر بِحَرِّ الغابات في فصل الصيف، أو قل الصعيد هو غابات الصيف الحار، سواء بشجره ونباتاته المزدهرة، أو بكونه مكانا نائيا، بعيد عن العمران البشري، مليء بالمشكلات، وذلك ما يتأكد من استخدام الشاعر ألفاظ مثل ((تفتت العظام، وتلبس الساعات))، إذن نحن بإزاء تلاعب دلالي، وهو ما يحقق للديوان شاعريته، عن طريق استخدام صورة مزدوجة، يتم في البدء استخدامها لغرض، ثم سحب دلالتها بعدما تشكلت لدى القارئ للبناء عليها بدلالة أخرى، وبينما نشعر بالتحليق الشاعري عن فجيعة الوجدان، وعن مشكلة الذات، فإذا بالشاعر في المقطع التالي يقول:
مثل غرناطة
كان حلما
فانهار
ما أسهل القول بأن الشاعر يُحدث حالة من التداخل بين الهم القومي، والهم الوجداني، خاصة أن استحضار ((غرناطة)) له ما له من مفاهيم خاصة به في الوجدان العربي، وهذه الحالة تتصاعد مع المضي في مجموعة القصائد فما يلبث أن يحيلنا الشاعر لوجع العشق والهجر، حتى يسحبنا لوجع الوطن والقومية في داخل القصيدة الواحدة مرات ومرات، يقول:
قالت إني طفلها
فهل تأكل الأم أولادها
وهنا يمكن لنا أن نحمل معنى الأم ما نشاء، فنراها الأم الوطن، أو الأم المعشوقة، أو أيا ما نشاء، كما أننا أيضا يمكن أن نحمل معنى أنه طفلها ما نشاء من معاني الغزل والهيام والغرام، ومعاني الوطنية في الوقت نفسه، فلما التداخل في الصورة؟ أو قل إن هذا التداخل هو ما يصنع جمال الصورة هنا، ومما يصنع جمال الصورة أيضا، ما يفعله الشاعر من ربط للقصيدة بالقصيدة التي تليها عندما يقول:
 يأيها الأبيض المتوسط
خذ دموعي إليها
لتتيقن أني انتهيت
ثم تأتي القصيدة التالية: ((الأطلسية))، وكأنه مهد بما انته إليه من حديثه عن البحر المتوسط بالمرور إلى المحيط الأطلسي، وعندما سنقرأ قصيدة الأطلسية سنعلم أن المساحة التي يتحدث عنها كبيرة جدا، تشمل كل البلدان العربية الواقعة على البحر الأبيض، إذن الشاعر حرص على ترتيب قصائده ترتيبا دلاليا يتداخل في التفسير والتلقي لدى القارئ، ليشعر القارئ وكأنه يقرأ مجموعة سردية من الفصول الممهدة لبعضها، لكننا هنا بإزاء سرد شعري ذاتي.
وأما قصيدة ((الأطلسية)) فهي قصيدة تبدأ بمعاني يتذبذب فيها الوصف بين معاني الأنثى، ومعاني الوطن، عندما يقول الشاعر:
والشَمْسِ ذَاتِ الوجْنَتينِ ..
والأعنابِ والرمانِ …
إنها طالعةٌ منْ دمي
ومَلِكَةُ قلبي
تنبت كلَّ المسافات …
أرضَ المسرةِ …
بالشوقِ
تدخلُ في زمان الحدائق
مزدانة بالورود البهية
والصباحات الفتية
والليالي العتية
من يقصد الشاعر بالبنت الأطلسية في ظل هذا الوصف؟ الإشارة واضحة إلى كينونة وطنية، لكن مصر ليست بدول أطلسية، كما أن الشاعر يشير إلى المغرب وهي دولة أطلسية فماذا يقصد الشاعر بالضبط، يقول:
أنا نيلك الساكن في وديان المغرب
والطالع من مصر
فما هدأ وما قرْ
أيتها البنت الأطلسية
أين منك المفرْ
إذن المعنى المركب لمجمل ما يقوله الشاعر هو الوطن العربي بمجمله، البنت الأطلسية التي يهيم بها شاعرنا بحسب ما يمكن أن نفهم من سياقه هي: القومية العربية، هي الروح الموحدة بين المشكلات التي تواجهنا جميعا كعرب في مواجهة أقدارنا ومشكلاتنا، وهي الروح التي تسكنا تماما كعشق فتاة يضحى عاشقها من أجلها بروحه فداء لها/ فداء للوطن.
وإذا ما انتقلنا لقصيدة ((الضجيج)) فإننا بإزاء ملحمة من نوع إنساني مختلف حول الأسئلة التي تُثار في النفس البشرية منذ الخليقة وإلى الآن حول صراع الخير والشر، لكن في هذه المرة يقدمه الشاعر بصورة مركبة، إنه يرسم لوحة تتشكل من  صور شعورية واحالات لغوية متراكبة، انظر مثلا لقوله:
هم قادرونَ
       على الضجيجِ
.. وهجر كل حناجر الشرفاء
لكن ..
ربما ..
ببساطة البلهاءِ
حين استنكروا أصواتهم
وتناثرت كل الشظايا حولهم
لم يكتفوا بضجيجهم
فاسترسلوا
ومضوا إلىّْ
………
تُعد هذه القصيدة مثالا على عدة تقنيات شعرية استخدمها المؤلف في تحقيق شاعرية ديوانه، فأولا التلاعب بضمائر المخاطبة، وتوجيه القارئ عبر الضمير ((هم)) ليفكر المتلقي بمن المقصود بهم، وهل ((هم)) غير ((نحن))، أو غير ((أنا القارئ)) ونحص ((هو)) الشاعر، ثم سرعان ما يموقع الشاعر ((هم)) بأنهم المهاجرين لكل حناجر الشرفاء، أنها تلك الأسماء التي لا ترد على لسان الشرفاء، وفي مخاتلة لا نعرف فيها من الذي يقوم بفعل الأحداث ولاحظ معي أيضا الانحناء الذي يتخذه الخط في شبه قوس، فالكاتب يتلاعب أيضا بالشكل الكتابي للكلمات، ليؤلف نصا يعتمد في معناه على التشكل السيميائي للعلامات اللغوية المكونة للنص، وينهي هذه المقطوعة بعدما حبسنا أنفسنا وتهيأنا لقبول معنى يحسم لنا الصراع بين ((هم)) الشرفاء، و((هم)) غير الشرفاء، لكي نعرف في الأخر أنهم مضوا إلى المجهول، فالمؤلف وضع ثلاثة أسطر كاملة من النقاط، تتماشي في التشكل النصي للرسم الكتابي بنصف القوس المتجه ناحية اليسار، وكأننا أمام مشهد مسرحي ينسحب منه الممثلين تاركين خشبة المسرح فارغة أمام جميع المشاهدين، وكأنه يضع جميع المشاهدين/القراء في مواجهة أنفسهم.
ثم تبدأ الكتابة من جديد، ولكنها تبدأ بضمير المتكلم، فبعد الحيرة التي وضعنا فيها الشاعر حول المقصود بكلامه، ينقلنا لضمير المتكلم، وإذا ما أخذنا في الحسبان أن كل قارئ سيقرأ النص سيمضي ضمير المتكلم إليه، فإن الشاعر هنا يجعل من نصه نسيجا يخاطب به روح كل قارئ، ليسحبه من التفكير فيما حوله، إلى التفكير فيما في داخله، في الذات البشرية القارئة للموضوع ذاته، يقول الشاعر:
ماذا عليَّ الآن .. ؟!
هل
أجتاز خيبتهم
كروح للشهيد
حكاية للمستباحِ
من الأمورِ
وأرسم الكورال
         حنجرة
لكنه دائما ما يجعلنا عند هذه الحافة من المعني الذي تشعر بأنك ستمسكه وتقبض عليه، ثم فجأة يتسرب المعنى منفلتا من بين يديك، ليصبح القارئ في حالة أشبه بحالة الوعي واللاوعي، وهي ((السيرالية)) ذاتها التي أشار لها الكاتب في موضع أخر، والتي تعني تمثيل العالم بمخاطبة لا شعور المتلقي، محاولة التعبير عن حالة اللاوعي التي قد يتعرض لها الإنسان في حياته، ويساعد على تأكيد ذلك مجموعة الأسئلة التي سيطلقها القارئ مندهشا: من الشهيد؟ من المستباح؟ وكيف تصبح حنجرة واحدة من الصوت كورال كاملا من الإنشاد والتغني؟ وما إن تمضي حتى تجد الشاعر يقول:
 لمخمور يصارع قوة الجاموس
                   والأبقارِ
                   والأسرابِ
                  وامرأةٍ
                  تنام على سرير دافئ
                 في ليلة شتوية

ومن جديد يتلاعب بنا المؤلف بالشكل السيميائي للعلامة النصية، فبعدما رسم قوسا في المرحلة الأولى، يعود هذه المرة ويرسم سطرا كاملا مستقيما، ثم ينتقل بنا في مفردات يعدد فيها القوى التي يصارعها المخمور من جاموس وأبقار وأسراب وامرأة، فيضعها في أقصى اليسار أسفل السطر المكتمل تاركا مساحة من الفراغ على يمين النص، فهل يشكل ذلك معنى مواز للمعنى النصي بمطالبة القارئ بالبحث في أعماقه حول الأشياء التي يصارعها وتتصارع معه؟ أو حول ما إذا كان القارئ في حياته مخمورا أم واعيا بصراعاته؟ أبدا لن تمسك بإجابة في ثنايا النص، لكن تبقي قدرة النص على توليد مثل هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة شاهدة على مقدار ما يحتويه من تقنيات حققت للديوان شاعريته، سواء كانت تقنيات التنغيم الصوتي، والتقديم والتأخير والحذف والوصل، أو كانت تقنيات على مستوى الخطاب، بتلاعب الشاعر في ضمائر المخاطبة، فاستغلها في التأثير على القارئ الذي سيحاول في عملية تأويل النص أن يحلل من يقصد الشاعر بالضبط بـ ((هم/نحن))، وعبر التشكيل البصري للكتلة النصية، كما استغل الشاعر انزياح الدلالة بين المحبوبة/الوطن/ الواقع الصعب الذي نعيشه، فعل كل هذا في إطار من التغني والعزف الذي لا شك أرهق أوتار آلته الموسيقية، فخانته في ترتيب النغمات في بعض الأحيان، فلم يكن من المبرر تقديم الأبقار والجاموس على المرأة؟ ولم يكن من المبرر غياب المعنى المحال إليه في تلبس الساعات التي لا نعرف بالضبط فيما تتلبس الساعات، ولا غياب المنطق في جعل حنجرة كاملة هي جوقة كاملة، نعم عزف الشاعر سيمفونيته بمفرده في ديوانه، لكن هل نجح في أن يؤدي كل أدوار الفرقة الموجودة في مخيلته، أم أن بعض الأدوار انزاحت عن موقعها الطبيعي؟ أسئلة أتركها مفتوحة لتلقي القارئ.


تجريب الكتابة، والتشكل السردي قراءة في مجموعة: طعم البوسة: لمحمد على ابراهيم

تجريب الكتابة، والتشكل السردي قراءة في مجموعة: طعم البوسة: لمحمد على ابراهيم

الناقد: وائل النجمي
يمكن تقسيم مجموعة قصص «طعم البوسة» إلى قسمين، الأول تجريبي قام فيه الكاتب بمحاولة استنفاد طاقته في التجريب وفي ايجاد شكل جديد للكتابة، وقسم أخر أشبه ببوح السر وهمس الخاطر الذي يقوم فيه الكاتب بتقديم مشاعره وانفعالاته بالاعتماد على استعادة الذكريات، وتقديم الأحداث القديمة بوصفها احداث جديدة تحدث الأن، ولعلني لا أبالغ عندما اقول ان الثقل الأساسي للتجريب في المجموعة في أقصوصة «طعم البوسة» - والتي تستمد المجموعة منها اسمها - سواء في التشكيل الفضائي على ورقة الكتابة، أو في تقديم الأحداث والشخصيات، وأيضا من حيث اللغة، يبدأ الراوي استهلال الأقصوصة بقوله: «شفتاها؛ يا الجمر المشتعل، يا أحمر قد علاها فدفن أسرارها .. شفتاها طريتان، وبريئتان وتنفجران فجورا.
شفتاي؛ يا فقرا توحد والرغبة، انهار من الجوع والعشق والحرمان والأحلام ..»
إن البداية بالتقابل بين شفتيها، وشفتيه، والبدء بشفتيها قبل شفتيه، كل تلك المفارقات تجعلنا ندخل في جو الأقصوصة الممهد لنا بأنه مقارنة بين «هي»: الأنوثة/ «هو» الذكورة، إلا أننا سرعان ما يتم سحبنا من هذا الجو الكوني حول الأنوثة والذكورة، ليتم وضعنا في إطار حفل زفاف ممتلئ بالزغاريد وبالبطون المتخمة بعشاء الزفاف، إلا أن التوظيف اللغوي لجملة: «رعشة ما تظللنا و(ربع الخمرة) بدأ يضيع في بحر شفتيها (...)» لم يكن مناسبا لهذه الملحمة الكونية التي يضعنا في ظلالها الراوي.
لكننا نتلق "تغريبا" أخر مع إعلان الراوي: «كان "جاك دوسون" يتأهب للدخول في جنة شفتي "روز" وهي ذاهبة إلى جحيم شفتيه.» ليجعلنا ذلك نتساءل: من المقصود بهذه المسميات؟ هل هما من ذُكِرَا من قبل؟ وهذه النقلة بين ضمير الراوي «أنا» و «هم» ثم استخدام لغة القياس بالقبل: «وذهبت في سرعة إلى مقعد يبعد عنها بمقدار عشرين قبلة» ثم ايقاف السرد لتقديم اعلان استهلالي وفي داخل مربع نصي على النحو التالي:




.....................
ولا يقصد هنا الاساءة إلى الرأسماليين أو تمجيد الاشتراكيين؛ لم تذكر كتب السماء أن الليبرالي أو الماركسي سيذهب أحدهما أو كلامها إلى الجحيم.
مع خالص تحياتي لأمن الدولة.
المرسل/ أنا الطيب

 
 



 يبذل هنا الكاتب أقصى طاقات التجريب من أجل تقديم نص متفلت من ظلمة الواقع وسطوته، وفي الوقت نفسه محمل برسالة الحب والرؤية الكونية، دون أن ينس انتقاد الواقع المرير، وهي رؤية اثقلت كاهل الكتابة، وربما لو لم يتم ذكر التحية لأمن الدولة في النص التوضيحي لكان أفضل، وأيضا تلقيب الراوي/الكاتب لنفسه بأنه الطيب ففي ذلك مخاتلة كبيرة، إن ما يريد أن يرسله الراوي إلى المتلقي عليه أن يتركه مشفرا فمحاولات فك الشفرة من قبل الراوي المتضمن في النص قد تؤدي إلى وصول رسالة غير المقصودة على الإطلاق، خاصة عندما يعود الراوي من جديد في رسالة أخرى ليلقب نفسه بأنا/الشرير.
مع العودة للنص السردي بعد النص المقتطع من السرد سنكتشف أنه يتم تحويلنا لمجرى اخر بعيد عن ما تم التهيئة إليه، وفضلا عن استخدام لغة تحلق في سماء الشاعرية دون مبرر سردي، إلا أننا نعود لنقطة البداية – استرجاع غير منطقي – لما قبل لحظة قبلة الزفاف إلى يوم التقدم والعشرة ألاف جنيه شبكة.
وما إن نمض متحسسين مقدار مخاتلة النص حتى نُفاجأ بتوقف السرد مرة ثانية لتقديم نص اعلاني مرة أخرى، نص يتحدث عن التعرية وما المانع من التعرية، ثم الخلط بين التعرية وقادة المرحلة، والتحدث عن المرسل: أنا/الشرير، وما إن نعود للسرد حتى نجد حوار حول غرق السفينة، إن ظاهرة اختيار أحد الأعمال السينمائية وجعلها في خلفية السرد – حيث المقصود هنا فيلم تيتانيك وقصة الحب التي صورت سينمائيا في الفيلم الشهير – مع ملاحظة أن الكاتب هنا يصنع مفارقة بين هذا الحب السينمائي، والحب في الواقع المصري، فالأول غرق في مواجهة البحر مع بقاء الحب خالصا في القلوب، والثاني: يغرق في مواجهة الشبكة والمهر والطلبات، لكن عين الكاتب كانت مفتوحة أكثر على الخلفية السينمائية بشكل أكبر عما فعله من توصيف للواقع الذي يتحدث عنه ويعيش فيه، لكنه لم ينس في زحمة هذا الحديث الإشارة إلى الواقع السياسي، كل هذه الطاقة التجريبية في قصة قصيرة، مثقلة بلغة شاعرة محلقة، لا أنكر أن هذا الخليط - الشاعري الرومانسي الواقعي السياسي - جعل المتلقي في حالة اشبه بحالة الحلم/اليقظة وكأننا نسمع موسيقى ساحرة غير قادرين على الفكاك منها، لكنها في الوقت ذاته تترك بداخلنا غموضا غريبا ومشاعر متناقضة.
ومن ناحية أخرى فإنه - في  اعتقادي - أن خير ممثل في المجموعة للقسم الآخر: قسم البوح بالسر والهمس واستعادة الذكريات هو أقصوصة: «هذيان حار جدا»، والتي تبدأ بالمقطع التالي: «العتبة قزاز والسلم نايلو في نايلو"، اسمع قلبي وشوف دقاته . المدمس .. النهاردة عيد يعني سيما وفتة .."
لا أتذكر سوى بعض الأغاني الرائعة و الرديئة و..
"هو كل يوم فول .. تأكل وتنكر .. ناسي الفتة واللحمة اللي سفحتهم في العيد .. جاتك بلوة واد مفجوع زي أبوك إلهي لا يرجعه .."
بهذه الاستعادة من الذاكرة يقدم لنا الراوي الأقصوصة، وواضح أن الذاكرة الفنية من سينما وراديو تحتل مساحة كبيرة في مجمل أعمال «محمد علي إبراهيم»، إلا أنه بحيلته الفنية نجح في أن يحول طاقة التأويل لمعنى أخر: «واد مفجوع زي أبوك إلهي لا يرجعه»، هنا نلمس التلاعب السردي الذي يقدم لنا الشيء، ثم سرعان ما يحيلنا لمفهوم أخر ورؤية أخرى، وطوال المضي في قراء العمل تشعر أن الرؤية والانفعال تتغير مرات ومرات عبر كلمة أو كلمات تقلب المعنى تماما، مما يعني أن مستوى التجريب السردي والتفجير اللغوي حاضر وموجود في المستوى الثاني من القصص لكنني اعتقد انه بصورة أقل من سابقه، أو على الأقل بصورة أكثر عقلانية ومنطقية.
وفي تكثيف سردي رائع يختصر الراوي لحظات وفاة والده وزواج أمه من رجل أخر، ويمضي من ذلك سريعا إلى مشهد السينما – مرة أخرى – ليتوقف أمام مشهد «زبيدة ثروت» في حضن «عبد الحليم حافظ»، وبعكس ما كان الحال مع فيلم تيتانك لا يذكر الراوي الأسماء الخاصة بالشخصيات في العمل الدرامي وإنما يذكر أسماء الممثلين أنفسهم، ثم يقفز أيضا سريعا لقلق أمه عندما تقوم بغسل ملابسه في إشارة واضحة للاحتلام.
اعجبني وصفه لجدته بأنها ذات العشرين ربيعا والستين خريفا، مقارنة رائعة بين السن وشباب القلب، ثم مقارنة تتلو ذلك من الجدة بين الأب وزوج الأم، وتقرير زيارة الابن لمعرض زوج الأب، وفي الخلفية نجد الأغاني تأتي من جديد: السح ادح امبو .. ادي الواد لأبوه، ومفارقة دالة في اختيار اسم كوميدي لزوج الأم والذي سماه الراوي بـ «ميمي هريدي بن عكرمة»، لتبدأ عملية المساومة من زوج الأم تجاه الابن على أمل أن يتخلص الابن من القيم والاخلاقيات التي زرعها في داخله أبوه.
ثم وفي حالة من الفنتازيا يدخل الراوي في غيبوبة ليرى والده وهو متقلد سيفه وفي نغمة تأنيب للابن الذي تخل عن القيم التي أورثها إياه يخاطبه مخيرا اياه حول السيف المشهر الذي يتقلده الوالد، ويسأل الابن هل يلزمه هذا السيف أم لا؟ وبينما الاب في هذه الجدية الصارمة يحلق طيف «زبيدة ثروت» شاغلا مخيلة الابن، مما يدلل بوضوح على عدم قدرة الابن على حسم الصراع الداخلي الذي يواجهه، وقيامه بالهروب النفسي لاتجاه اخر يشعر فيه فقط بذكورته وبما يمكن أن يشعر فيه بالسعادة دون أن يقوم بما هو مطلوب منه من جهد مجتمعي.
سرعان أيضا ما يقوم الكاتب بعمل نقلة أخرى للمشهد بإدخال العسكر وهم يطاردونه بعدما قرر الرحيل من يد الأطباء، رحيل يتخذ طابع القيام والتحدي للواقع، لكننا سرعان ما نكتشف أنه رحيل للعالم الأخر، رحيل للموت، إنه الانسحاب والانهزام  إنه الرحيل نهائيا من الحياة، ليجد الراوي كلا من: أبيه، وعبد الحليم، وزبيدة ثروت في انتظاره، ومع التلاعب بسيميائية الكتابة يقطع كلمة "ينتظرونني" وكأنها تخرج مع أنفاس الراوي الأخيرة.

ما بين النوعين من الحكي على أن أشير لنوع ثالث، نوع يتخذ لنفسه طابع الملحمة لكنها ملحمة سريعة مكثفة موجزة، من ذلك أقصوصة «ما قاله الولد لا»، وتقسيمها لبعض المقاطع التي تؤكد على هرب الراوي إلى مخزن الهمس والاحساس والمشاعر، إنها أقرب إلى الرؤية الفكرية حول الحياة، لكنها رؤية فكرية مقدمة في أسلوب سردي رائع، يتخللها بعض الأبيات الشعرية التي تؤكد على رؤية محددة، وسمة الكتابة التجريب وتفجير الدلالات بحيث تولد معاني مختلطة، يتلقاها القارئ معا شاعرا بأنه ولج لعالم الكاتب وأنه أسير هذه الانفعالات دون قدرة على الهرب منها، ودون القدرة على تشكيل رؤية محددة واضحة، ليجد نفسه مضطرا لتشكيل رؤيته الخاصة أيضا، الرؤية التي قد تكون متناقضة لكنها في النهاية هي نظرتنا للحياة، أليست الحياة هي ذلك التناقض الذي نقبل به، فنغمض أعيننا عن الكثير من أجل أن نحيا فيها.

الجمعة، 11 أبريل 2014

المضحكات المبكيات ... مفارقة عبد السلام ابراهيم في كوميديا الموتى

المضحكات المبكيات ... مفارقة عبد السلام ابراهيم في كوميديا الموتى

الناقد / وائل النجمي
"التشويق" و"الجاذبية" من علامات النجاح المهمة في أي عمل سردي، فهما يدفعان القارئ إلى إكمال عملية القراءة، ويوجهان إلى انفتاح أفق التلقي وفهم أبعاد التأويل، ولا شك أن هذه العلامة موجودة بقوة في مجموعة «كوميديا الموتى» لـ (عبد السلام ابراهيم) –صادرة عن النشر الاقليمي فرع الأقصر 2010م، تلك المجموعة التي تتكون من 20 قصة تتراوح ما بين الأقصوصة، والقصة القصيرة، وقد بدأ (ابراهيم) عملية التشويق مبكرا مع القارئ، منذ العنوان، فهل من كوميديا في الموت؟ هل يمكن تخيل أن هذا الحدث الذي تخاف منه البشرية جميعها به من المفارقات ما قد يؤدي لصنع بسمة ما؟ أم أن الأمر هو من المضحكات التي هي في حقيقة الأمر مبكيات؟ يستبين عند محاولة الاجابة عن هذا السؤال أن العنوان مستوحى من القصة العاشرة في المجموعة، أي القصة التي تقع في القلب من بين باقي القصص، وكأن هذا الاختيار بهذه العنونة، وهذا الترتيب يؤكد على نوع خاص من الكوميديا موجود في قلب الحياة، وفي قلب الواقع دون أن نشعر به، إذن علينا أن نبدأ من قلب المجموعة حتى نستبين دلالة العنونة ثم نعود من جديد لباقي القصص. 
تتناول قصة «كوميديا الموتى» جدلية الموت والحياة، وتنظر بوجهة نظر مغايرة لأولئك الذين تجعلهم ظروفهم موتى في الحياة! إنها صرخة في وجه التعاسة الإنسانية، والظلم الإنساني، وتخلي الإنسان عن أخيه الإنسان في مواجهة متطلبات الحياة، ليصبح الفقير في مصر لا يملك إلا أملا واحدا بعيدا، هو أن تُسقِط السماء عليه ذهبا، أو يرحل من هذه الدنيا حتى يتخلص من مشكلاته، إنها تتحدث عن ذلك الأب الذي ملأ أبناءه باليقين في مواجهة الحياة، ثم مات دون أن يملأ بطنه، دون أن يشبع يوما واحدا، بل دون أن يكون هناك كفن متوفر له يوم أن جاءته المنية، وها هو اليوم استطاع الابن أن يوفر كفنا لوالده، فيعود له رغم صعوبة المهمة - تلك المهمة التي فرضت الدنيا على هؤلاء البائسين أن يكون مصدر معيشتهم الحاد الموتى – يعود الابن ليواري عظام أبيه في الكفن، فهل تستحق هذه الدنيا التي جميعنا فيها مصيرنا للدود يتغذى علينا، أن يكون بيننا كل هذا الفقر، أو هل نملك لمن يبخلون بأموالهم عن الاسهام في توفير الحاجات الإنسانية إلا أن نسخر منهم وأن نضحك من تصرفاتهم، إنها كوميديا سوداء عجيبة.
وما يحقق فاعلية هذه الأقصوصة الدمج بين الوصف، وبين الرسالة المتضمنة في طريقة سردها، ولعل من أول الأشياء التي تتبدى لنا في خصوصية سرد (عبد السلام إبراهيم) طريقته الخاصة في الوصف، في تقديم الدفقة الشعورية عبر استبطان المعنى الكامن في أعماق الشخصية من خلال الواقع ومعطياته من حول الشخصية في مسيرتها، فالمكان، أو إن شئت الدقة وصف المكان وتوظيفه يحتلان أهمية كبرى في سردية (عبد السلام إبراهيم)، خذ على ذلك المثال التالي، يقول الراوي:
 «متأبطا قطعة قماش بيضاء صعد حائط الجبانة المرتفع. هبط ثم مشى ناظرا تحت قدميه يتفادى القبور المبنى فوقها هرم والمكتوب عليها، والمطلية بألوان مختلفة، والقبور التي تساوت بالأرض والمحفورة بمخالب الكلام والمهدمة، بينما كان يحدق في تلك التي ليست عليها علامات أو طوب مرصوص، كادت قدمه أن تنزلق في احداها، بشهقة عالية سحبها.» صـ28
فللوهلة الأولى قد تشعر بأن الوصف المسهب لأنواع القبور ما بين المهدم والهرم والمرتفع والممحو، هو إطالة للقصة التي تقوم على قصر معطياتها، لكن ربط معطيات الوصف بباقي القصة، مع الفكرة الأساسية المطروحة حول مصير وحياة بني البشر، فإن تعددية أنواع القبور هنا تلائم تماما تعددية الناس وطبقاتهم، وكأن المعنى الضمني الكامن: كل الناس بمختلف انواعهم مصيرهم تحت التراب، وإن تعددت أشكال القبور التي ستُتَخذ لهم. لكن هذا لا يعني أنه في أماكن أخرى لم ينزلق الكاتب لهواية الوصف على حساب الموضوع نفسه بحسب ما سيجيئ، لكن حتى هذا الوقت فلنمض تجاه تقنية ثانية تكشف عن نفسها وستتكرر باطراد في المجموعة – باستثناء أقصوصتين هما: التوهج، وأبو خليفة – وهذه التقنية هي الراوي الخارجي، الراوي بضمير الغائب، الكلي المعرفة، ذلك الراوي الذي يقدم لنا جميع التفاصيل، الحالية والماضية، الحاضرة والغائبة، ربما كان هدف هذه التقنية محاولة قول الكثير، واختصار الكثير في مساحات سردية صغيرة، لكن لا شك أن عيوبها ما تورط فيه أحيانا الكاتب من زيادة في الوصف، وتكرارية في تقديم معلومات يمكن بسهولة اقتطاعها من السياق السردي دون أن تؤثر على مسيرة ورسالة القصة.
مثال ذلك، المقطع التالي الذي يُعد نموذجا للراوي الغائب كلي المعرفة، وللوقوع في أسر الوصف، من أقصوصة «الخط المستقيم»:
«استدار حميد قادما من ناحية الجبانة القديمة محاولا اختراق المارة عند المدخل الجنوبي لشارع السوق، هدأ من سرعته ومرق بجانب الحائط ممسكا العصا من المنتصف، لف حول نفسه عدة مرات وعاد إلى بداية المدخل الجنوبي لشارع السوق، توقف لاهثا وكشف بعينية الشارع الممتد غير عابئ بالمارة المتناثرين، أحكم قبضته على العصا بيمينه، من نقطة بعد سور الجامع حددها هو، وعند زمن ما للأمام خطت قدماه مسرعتان، وللأمام وللخلف حرك يديه مارقا في منتصف الشارع، تزيد سرعته كلما خطا بقدميه الناشفتين ناهبا الشارع وعند القهوة كان الشارع مسدودا بالباعة، وقف هادرا يتطاير سائل من فمه وأنفه، جلس مكانه ممسكا العصا من المنتصف يصيح وهو مغمض العينين: - تششه» صـ34
لقد طال الوصف هنا إلى درجة ربما ليس مكانها الأقصوصة القصيرة، وإنما مكانها الرواية، بل في الرواية نفسها كنا سنعيب هذا المقطع الذي يقدم وصفا أكثر مما يحتاجه السرد، فزمن السرد – زمن الصيغة بتعبير جيرار جينيت – أكثر بطئا من زمن الواقع، فما يأخذه القارئ من وقت في قراءة المقطع أكثر مما يحدث في الواقع من حدث – ونقصد بالواقع هنا واقع القصة، وطبعا من حق الراوي أن يختار لحظة ما ليكبرها ويجعلها بألف لحظة، ولكن شريطة أن يكون هذا متناسقا مع منطق السرد ذاته، شريطة أن يكون الدور التأويلي والدور الذي يتم تقديمه في تشفير وفك الشفرة يتأثر بهذا التكبير، لكنني أعتقد أنه في أماكن عديدة من المنطق السردي، كانت تحدث تكبيرات وصفية متداخلة مع تقاطعات الراوي دون أن يكون لها مقابل أو تأثير في التأويل، والأمثلة عديدة في المجموعة.
والظاهرة التي تستحق الوقوف أمامها هو محاولة المجموعة استبطان النفس الانسانية، محاولة تقديم أطروحة لفهم الانسان، لكنها اطروحة تنطلق من المنتصف، ولا نعرف بالضبط إلى أين يمكن أن تصل بنا، اهتمت بقضايا الفقر والجوع والحيرة والنفاق، وتعددت رؤاها وتنوعت، إلا أنها تصل ذروتها وروعتها – من منظوري – عندما تحاول أن تستبطن جوانب القوى والضعف في الذات البشرية، ففي أقصوصة «الصورة خارج البرواز» حديث عن تلك الأقنعة التي نضعها جميعا، بقدر أو بآخر، والمقابل الرمزي بين سقوط صورة من بروزاها، وانكشاف بطل القصة أمام زميله، ورغبة زميله في مواجهته،.
بينما في أقصوصة «موت كومبارس» فالراوي يطرح معضلة العلاقة الأزلية بين صراع الفرد مع المجتمع! صراع البحث حول مَن هم الأبطال؟ ومن الـ «كومبارس» في الحياة؟ هل الأمر بالاختيار أم أن الأدوار وزعت وانتهت؟ ماذا تفعل إن اكتشفت مع قرب انتهاء حياتك أنك كنت تعيش في هذه الدنيا «كومبارسا»، أنك كنت دائما تقوم بدور الداعم والمساند لنجاح الأخرين وظهورهم دون أن تقترب من النجاح؟ تكتشف أنك كنت تعيش على الحياة من خلال هامشها؟ وأنك نادرا ما كانت لك أدوار البطولة.
إذن نحن أمام ذبذبة إبداعية، تعكس قدرة الكاتب على اختصار ألاف الأسئلة في مساحات سردية قصيرة، وقد اخترت وصف مساحات سردية وليس مساحات نصية، مفرقا بين المساحة التي يقوم فيها السرد بأدواره كاملة وبين المساحة التي يسودها ويملأها النص بينما هي قد لا يكون لها أية وظيفة في السياق السردي، فالعبرة ليس بعدد الكلمات هنا، وإنما بالإقناع والمنطقية السردية، المنطقية السردية التي ينجح الكاتب تماما في أن يقنعنا فيها في أماكن عديدة، وفي أحيان أخرى نشعر بأننا نتوه معه في دوائر دون أن تصل إلينا الرسالة المتضمنة، وإن كان التشويق والجذب حاضرا في كل الأحوال، إلا أن الفحوى والمنطق السردي يغيب أحيانا.
لعل مثال على ذلك أقصوصة «هيام»، والمقارنة بين هيام ابنة الثامنة، وهيام ابنة العشرين، والرابط بين الحالين ما تحمله هيام في يديها من طفل صغير تلاعبه بنفس الطريقة، ومع انتقال الراوي من الغائب في بداية الأقصوصة: «عندما كانت هيام في الثامنة من عمرها خرجت حاضنة طفلا صغيرا، أخذت تدور حول جذر الشجرة المقطوعة أمام البيت، راحت تغني ...» صـ 32، وبين الراوي الحاضر في النص، الراوي بضمير أنا: «عندما أصبحت هيام في العشرين من عمرها خرجت من البيت – وكنت واقفا في الشرفة بحيث لا يظهر جسدي كله – تدور حول جذر الشجرة المقطوعة ...» صـ 33، من يمثل الراوي في السرد؟ هل هو الطفل الذي كانت تحمله هيام؟ أم هو زوجها وما تحمله هو طفلهم؟ ما المعنى المتضمن والرسالة المحمولة؟
 لقد أراد كاتبنا اختزال أمور كثيرة في دفقات القصيرة. استوعب العديد من الأسئلة عن الدور في الحياة، وعن رسالة الإنسان، لكنه أيضا يبدي ولعا شديدا بما وراء الطبيعة، أو بطريقة نظرنا لما وراء الطبيعة في الحياة، فعبر 8 أقصوصات هي:  «سيدة الدود»، و«طريق واحد»، و«أبو خليفة»، و«الدرويش»، و«نداء الموتى»، و«صن عوض الله العوامري»، و«الموت المطلق»، و«بيت الثعابين». عبر هذه الأقصوصات الثمانية تناول الكاتب اطروحات عن الجان والمارد والرصد والأحلام وحاوي الثعابين والدراويش وحالة الشبحية بين الحياة والموت، تناولها بمنظور لا يطرحها باعتبارها قابلة للشك أو حتى التحليل، وإنما باعتبارها وقائع قامت بأدوار محددة في تحقيق السرد وفي تحديد وظائف الشخصيات ومسار الأحداث، وفي أقصوصة «طفل صغير جدا» يخلع صفاتا اسطورية على ادراك طفل صغير بأن رجلا غريبا على وشك التحرش بأمه، فيقوم بمنع ذلك عبر التبرز على نفسه.
إذن كانت في مواضع كثيرة الأقصوصات ضاربة في العمق، ناجحة في أن تحقق المتعة والدهشة، وإيصال رسالة واضحة وعميقة الأثر في وعي المتلقي، وفي أماكن أخرى، غاب عن الأقصوصات عمق الرسالة، ولم تغب الجاذبية والتشويق القائمان على الوصف، لكن في بعض الأماكن اكتفت فقط بتلاعب الراوي بالوصف المكاني، وبمحددات المكان المحيط بالشخصيات، وغلب على المجموعة الراوي الخارجي كلي المعرفة، فقد تلاحظ لنا ندرة تغيير هذا النمط أو التحول عنه، وفي أماكن كثيرة يجيد الراوي التكثيف وتقديم الكثير في أقل مسيرة سردية ممكنة، بينما في أماكن أخرى كان السرد هو من يسيطر على الراوي، ورغم الجاذبية التي تدفع القارئ إلى الاستمرار في القراءة إلا أن شعورا ما بتضارب وصول الرسالة للمتلق يطرح نفسه أحيانا.

 إنها محاولة جيدة للتصويب، لكنك تشعر أن السهم قد حاد عن الوصول لمنتصف الدائرة، لقد وصلت الدفقة الابداعية لأعلى مستوى لها في «كوميديا الموتى»، و«تأبين ماكبث» و«سيدة الدود» - من وجهة نظري، وتركت مساحة للتساؤل في أقصوصات مثل «هيام» و«خط مستقيم» التي لا نعرف فهيا ما إذا كان عودة الدرويش لطبيعته مساء سببها اصطناعه ذلك صباحا أم غياب من يستفزونه في المساء، و«أبو خليفة» التي كان يمكن الاستغناء عن الكثير من الشخصيات المسماة والمكناة فيها دون تأثر في مسيرة السرد، و«التوهج» التي لم استطع أن أصل للرسالة المتضمنة في شفرتها. وبين هذه الأقصوصات وتلك، وفي كل الأحوال كان هناك قلم متميز في ابقاء القارئ بين دفتي المجموعة، لا يغادر صفحة دون أن يقرأها، بقي عليا أن أؤكد أن كل ما قدمته هو من قراءتي ومنظوري الخاص تجاه المجموعة، وهو المنظور ذاته الذي يؤمن بأنه لا صواب مطلق أو حجر على الذائقة الابداعية والنقدية، ومن ثم فإن كل ما قدمته قابل تماما لأن يقدم آخرون غيره وفق معطياتهم ورؤيتهم؛ لذا فإنني أدعو المزيد من القراء والنقاد إلى قراءة هذا العمل، وتقديم طرحهم حوله.
==========

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان)

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان) بحث: الناقد وائل النجمي يعد مفهوم "وحدة القصيدة" من المفاهيم اله...