السبت، 29 فبراير 2020

الدكتور سيد البحراوي: ثقافة الثورة





الدكتور سيد البحراوي: ثقافة الثورة






رغم الأبحاث القيمة التي يتم تقديمها في كتب المؤتمرات الثقافية بمختلف أنواعها، إلا أنها تبدو بالنسبة للكثيرين من جمهور القراءة والاطلاع عسيرة المنال، واليوم كنت أقرأ هذه المقدمة القصيرة من الاستاذ الدكتور سيد البحراوي فأعجبتني فرأيت أن أنقلها لكم.
الاستاذ الدكتور سيد البحراوي:
 ثقافة الثورة
كتاب أبحاث مؤتمر اقليم وسط وجنوب الصعيد الثقافي المؤتمر الأدبي الثاني عشر، مارس 2012


===========  صـ11
الثورة فعل ابداعي، تغيير جذري عنيف أو سلمي تقوم به جماعة وليس فردا ولا مجموعة من الأفراد لنظام حياة كامل يتضمن القيم والمؤسسات والأفراد.
لقد قصدت هذا الترتيب المعكوس لعناصر الناظام التي ينبغي أن تغيرها الثورة. هو معكوس لأن الواقع الفعلي يبدأ بتغيير الأشخاص الذين يحكمون، ثم المؤسسات، وأخيرا القيم المجتمعية التي قد تأخذ وقتا أطول كي تتغير.
ومع ذلك فإنني أرى أن ترتيبي هو الأصح، لسببين:

الأول: هو أن الثورة - وإن كانت نتاجا لوضع اقتصادي اجتماعي مرفوض - فإنها حين تخرج ، تخرج بشعارات وبرنامج شامل لحياة جديدة مناقضة لما كان. وهذه الشعارات والبرامج تنتميان إلى نسق القيم الجديد الذي ينبغي أن يسود المجتمع
============ صـ12
والثاني هو أنه إذا كان تغيير الأفراد والمؤسسات يتم على نحو لا يؤدي إلى سيادة نسق القيم الجديد، فإن الثورة تكون قد فشلت، لأنه لا يمكن أن يقوم نظام الحكم الجديد بمؤسسات وأفراده على نسق القيم القديم.
وأرجو أن يكون واضحا - هنا - أن نسق القيم، يعني بالنسبة لي الثقافة بمعناها الواسع، وليس ما شاع بيننا وزرا طوال التاريخ.
***
ورغم أن المظاهرات التي بدأت يوم 25 يناير 2011 جاءت امتدادا لتاريخ من النضال الطويل ضد أنظمة فاسدة مستبدة، ورغم أن قادتها الشباب قد تربوا على هذا النضال وعلى أساتذة تاريخيين مثقفين ومناضلين قٌمِعوا، وهمشوا، فإن تحول المظاهرا إلى ثورة، بإنضمام بقية طبقات الشعب المصري إليها، جاء عفويا وتلقائيا، ومن ثم فقد انحصرت مقومات الثورة في مجموعة من الشعارات، دون برنامج حياتي ولا أفراد قادة، ولا تصور مؤسسي.
ومع ذلك، فإن الشعار الأساسي الذي رفعته الجماهير والذي تراوح بين (خبز/ حرية/ كرامة إنسانية) أو (كرامة، حرية/ عدالة اجتماعية) يتضمن - بغض النظر عن ترتيب الأولويات - نفس المطال التي تحمل قيم الحرية والعدل والكرامة.
ولكن لأن الثوار، أو قادة الثورة، ليسوا هم من تولى أمور البلاد، واستمرت ادارة البلاد بنفس النهج القديم تقريبا، فإن ما تحقق من الشعارات الثلاثة هو بعض الحرية، وبعض الكرامة، دون أي قدر من العدالة، وخاصة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وللأسف فإن ما تحقق - مع إيجابيته - حمل بعض السلبيات بسبب الانفلات الأمني أساسا - تمثلت في انفكاك عقال النزعات الطائفية والدينية، على نحو يهدد ما أنجز وما ينبغي أن يتحقق. وهنا يأتي الدور الأساسي لثقافة الثورة والذي أراه فيما يلي:
================== صـ13
1- تحقيق العدل على مستوى الثقافية، بإعادة الاحترام للنسيج الثقافية العميق وللثقافة الشعبية بقنونها وقيمها الايجابية، وخاصة في جانب التعايش الديني العميق الذي يتبناه المصريون، أيا كانت دياناتهم ، والمتجسد في وحدتهم الوطنية دون صراع أو عنف.
2- نقل الحوار الفوقي في المؤتمرات القاهرية إلى حالة حوار مجتمعي في كل أنحاء مصر قراها ونجوعها ومدنها وعشوائياتها ، وفي كل الأماكن الممكنة في الساحات ومراكز الشباب وقصور وبيوت الثقافة، ويشارك فيه كل ألإراد المجتمع وفعالياته المحلية وكل القوى الفكرية والسياسية.
3- ضرورة محو أ/ية المصريين فورا وتكاتف كل الوزارات المسئولة: الثقافة والتعليم، والتعليم العالي، والشباب ، والمحليات، والأوقاف، عبر مشاركة شعبية واسعة بحوافز مادية ومعنوية.

4- تمكين المثقفين الوطنيين من القيام بدورهم الطليعي وخاصة في الأقاليم، عبر مجموعات عمل شعبية تتولى مهام إدارة الحوار والمراقبة والمشاركة في اتخاذ القرار.
============================= 
**** إنها مقدمة قصيرة للغاية لكنني اظنها كفيلة لفتح سياق كبير من الجدل والحوار والنقاش حولها.****




والثاني 

الأربعاء، 26 فبراير 2020

التعاضد التأويلي في ديوان ناصية الأنثى لـمحمود مغربي.

التعاضد التأويلي  في ديوان ناصية الأنثى لـمحمود مغربي.

الناقد: وائل النجمي
لا يتناسب التخوف الموجود في مقدمة ديوان الشاعر محمود مغربي والمعنون بـ "ناصية الأنثى" والصادر في هذا العام، مع القيمة الأدبية للشاعر صاحب الديوان، ففي تقديم الأستاذ أحمد المريخي يؤكد على التخوف الذي شعر به مغربي من نشره لأدب الخواطر، والشاعر نفسه يلجأ للتبرير عن هذه الكتابة التي هي خالص

ة للنفس، وكل ذلك التبرير سببه السمعة النقدية لأدب الخواطر، وإن كنت أرى أنه من الواجب على الأديب ألا يلتفت لأحكام مسبقة حول الجنس الأدبي الذي يرغب في الكتابة به، ومهما وصف أدبه بأنه خالصا للنفس، فنحن نعلم تماما أنه سيتلاعب بالكلمات، بل من أجل هذا نقرأ له، فنحن نريد منه أن يحلق بنا في سماء المشاعر لنتعرف معه على خبرة جميلة لذيذة، نختزنها في الوجدان وتبقي أثارها حية في فهم الحياة.
والحقيقة أن شاعرنا اتبع أسلوب المخاتلة منذ البداية، في تسميته لديوانه "بناصية الأنثى"، فالقارئ سيميل لفهم الناصية من ناحية التملك، بينما تقبل في معانيها الطريق والاتجاه أيضا، وحتى في توضيحاته عن ذلك، يترك كلا المعنيين قائمين في نفس القارئ، فهو يقول: بين يديكم الآن "ناصية الأنثى"، وحتما هناااااك نواص أخرى سوف أنشرها تباعا، منها ما للجبل، وما للبحر، وما للصحراء"، ويكمل الشاعر سحره اللذيذ في إذابة الفوارق بين المعاني فيتحدث عن أن هذا الديوان هو حديث مع الأنثى، وليس عن الأنثى كما قد يتوقعه البعض، لكن في اعتقادي هو حديث عما انطبع في وجدان الشاعر من ذكريات وحوارات وتفسيرات مع وعن الأنثى، قد أكون مصيبا في ذلك أو مخطئا، لكني أستدل عليه من إحدى قصائد الديوان، وهي قصيدة "ابق لي مضيئا"، وهي القصيدة التي أرى أن لها معان خاصة ظهرت واضحة جلية، تسهل على القارئ فهم باقي المعاني الواردة في الديوان، وهي القصيدة التي أراها توطئة وجدانية للقصيدة التي تليها "صوتك عبر الهاتف"، رغم كبر الأولى وصغر الثانية.
ففي "ابق لي مضيئا" يعتمد الشاعر على تقنيات التساؤل والالتفات ليغرس في النفس توطئة لشاعرية قصيدته من ناحية، ويهيئ لما سيليها من ناحية أخرى، فهي عنده تبدو أهم، ومقاييس الشعر في الأهمية والقيمة غير المقاييس العادية، والمفارقات تبدأ مع القصيدة نفسها، مع التناقض بين المفاجأة والخصوصية، ثم التأكيد على بلوغ التفاصيل، رغم أن الولوج للتفاصيل تم بغتة، لتكون المحصلة "ألف سنبلة ضحوك"، فهل أراد الشاعر أن يصف السنبلة بالضحك، أم أراد أن يكسب صفات السنبلة من إثمار وعطاء واستمرار وبقاء للضحكة، وهو ما يعاضده العدد ألف، لتظل الضحكة الواحدة ترن وتجلل في نفس الشاعر كأنها ألف سنبلة كل سنبلة تغرس حباتها التي تتفجر منها جيلا جديدا وهكذا، خاصة أن الرقم ألف يقترن في اللغة بالاستمرار.
لكن يبدو أن الشاعر قد انتبه لمباشرة هذا المعني، فيرغب بنا أن نصل لأفق أخر في انتقالات سريعة من الشاعرية الخصبة، فيتحدث عن حواجز وهضاب وألف من الأمواج الثائرة، إنه يتوارى منا بعدما عرفنا أنه قد تم اقتحام تفاصيله بضحكة مثمرة، فأراد ألا يظهر بذلك المظهر اللين المستسلم للمحبة، يقول الشاعر:
لماذا أيها الفرح
تخترق حواجزي
تعتلي الهضاب
تروض ألف موجة ثائرة
لماذا؟
لكن الشاعر ربما كان محقا في استسلامه لهذا الترويض الذي غلب ألف موجة ثائرة حاولت أن تقاوم، فهذا الفرح أضاء عتمته، لكنه في الوقت ذاته حيره في تسجيله في سطوره، وهذه الحيرة هي التي جعلت هذه القصيدة في اعتقادي توطئة وتهيئة للتالية، لأن القصيدتين عند قراءتهما على أنهما مترابطتين تتضح الكثير من المعاني التي يستفيد منها القارئ جدا، فرغم استمرار الأولى في تقديم التشبيهات الجميلة من أرواح شفيفة وطغيان لذيذ، وحنو طازج، ودهشة مسائية، إلا أن المصارحة والمكاشفة تأتي في النهاية واضحة مع التناص الصريح باستعارة البيت الشهير لبشار بن برد:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة               والأذن تعشق قبل العين أحيانا
إذن هذه القصيدة هي تعبير عن مقدار الانفعال بصوت المعشوق، ذلك الانفعال الذي أحس الشاعر أننا لن نستطيع أن نقدر قيمته فأراد أن يوضحه لنا من منظوره، لنشعر به كما يشعر به، وليس من قبيل الصدفة من منظوري أن تكون القصيدة التالية " صوتك عبر الهاتف"، وليس من قبيل الصدفة أيضا أن تكون أصغر في حجمها، لأن مع ربطها بما قبلها ستكون أكبر في تأثيرها، فالقصيدة الثانية توثق الحدث وتقيده، والأولى توثق الأثر والانفعال وتوضحه، وفي الحالتين يتم ذلك من منظور نفس شاعرة عاشقة معطاءة قادرة على توصيف المشاعر والانفعالات بقوة، وهي أهم سمات أدب الخواطر.
لكن اللافت أن ظاهرة التعاضد بين قصيدة وأكثر بحسب ما ألمحت إليه من تعاضد معنوي تتكرر في الديوان، فهناك ترابط بين "حديث البستاني"، "كلمات من كتاب العشق" و"إلى ذات الوجه المستدير"، فبعد أن مهد الشاعر لفكرة أن "المرأة بستان"، لها ظلال وورود وثمار، أفاض في وصف الفل والياسمين، ثم في وصف صاحبة البستان من منظور عباد الشمس، وهكذا في استمرارية جميلة من قيم يغلب عليها الوصف بالخصب والنماء والغرس والجمال.


ورغم أن ما ألمحت إليه من ظاهرة الترابط والتعاضد بين القصائد والمعاني المتضمنة هي قراءة خاصة بي للديوان قد يتفق فيها معي البعض أو يختلف حولها، إلى أنني أتساءل هل ستستمر هذه الظاهرة لتصبح هناك ترابطات بين قصائد في هذا الديوان وقصائد أخرى قادمة في دواوين أخرى، أو في نواص أخرى؟ ذلك ما ننتظر أن نعرفه من الشاعر في الدواوين القادمة، وتبقي مقولة أخيرة، أنه ما من أحد - دون غيره - يمتلك ناصية الأنثى، كما أنه ما من أحد - دون غيره - يمتلك ناصية التأويل، فالقراءة النقدية  مفتوحة مرات ومرات أمام من يرغب لهذا الديوان الرائع.

أنماط توظيف "التراث" في التوجه للحداثة


أنماط توظيف "التراث" في التوجه للحداثة 

دراسة الناقد والباحث: وائل النجمي
للتراث العربي تأثيرا خاصا على النفس العربية، فهو مرتبط بالأصول الدينية الإسلامية من ناحية، ويُذَكِّر بعصور الازدهار والقوة عندما تمكنت الأمة العربية من حُكم العالم وتأسيس قوة عظمى من ناحية أخرى. ولا شك أن في استعادته فخرًا بالأسلاف العرب الذين استطاعوا رغم الصعوبات التي واجهتهم أن يصنعوا المستحيلات بشهادة التاريخ نفسه؛ وبالتالي فإن التراث العربي يثير في النفس حُلم النهوض من الأزمات والعثرات التي تعاني منها الأمة العربية؛ لكي تستعيد بعضا من مجدها الذي كان موجودًا سابقا، وفُقِدَ في المسيرة التاريخية في ظل الأزمات والصراعات السياسية وغيرها من العوامل.
ومن ناحية أخرى، للتراث العربي أهمية منهجية أكاديمية لمن يعمل في حقلي اللغة والأدب، لا يمكن تجاهلها؛ حتى لو استعان الناقد بمناهج نقدية حداثية غربية؛ لذا كان التراث العربي حاضرا عند النقاد في توجههم للحداثة(*)؛ لكن برد فعل مختلف فكان هناك: أولا: الرافض "للحداثة" باعتبار أن في التراث العربي ما يغني عنها، وكان هناك ثانيا: من يرى أن "التراث العربي" ببعض الجهد والعمل يصبح بديلا كاملا لهذه النظريات الغربية، وأخيرا:  هناك اتجاه عمل على وصل الماضي بالحاضر من غير الوقوع تحت أسر أحدهما(_).
يبدو المثال الواضح للاتجاه الأول عند الدكتور ((عبد الحميد إبراهيم))، الذي أتخذ مواقف أولية من "النظريات النقدية الحداثية" بالاعتماد على رصيده السابق من خبرته النقدية، دون أن يتح له الاطلاع فعليا على مصادرها – وقتما اصدر موقفه الأولي()، ومن ثم دون التحاور فعليا معها بالتطبيق والتجريب باستخدام أسسها؛ لذا ليس مستغربا أن يكون موقفه التعارض كليا مع النظريات الحداثية. حيث رفضها الدكتور ((عبد الحميد إبراهيم)) من منطلقات دينية، يقول: ((فهي أفكار تضرب إلى بنية الحضارة الأوربية، وهي حضارة ترتد إلى جذور إغريقية وثنية، تتمرد على صورة الإله في تراثها، وتراه يحد من انطلاقة الإنسان، وتفترض صراعا أو تعارضا بين الإله والإنسان(...)))([1])، والسؤال: هل اختلاف الأديان والعقائد يقف حائلا بين الحضارات دون الاستفادة من إسهاماتها الثقافية؟ ألم تتوجه الحضارة العربية إبان الدولة الإسلامية سابقا إلى الترجمة والأخذ عن الفرس والروم واليونان، في ظل سيادة دولة إسلامية شجعت ذلك! رغم أن الفلسفات التي كانت لدى هذه الحضارات وقتها هي الجذور الوثنية ولم يتنكر السلف الحضاري الأول لهذه الثقافات وإنما حاولوا الاستفادة منها، أخذ ما هو نافع منها وترك ما هو ضار.
لكن من منظور الدكتور ((عبد الحميد إبراهيم)) فإن النقاد بنقلهم لهذه النظريات فعلوا ذلك على سبيل التساهل والكسل عن بذل المجهود([2]). فهو يرى أن كل ما جاءت به النظريات الحديثة موجود بشكل أو بآخر في الموروث النقدي، لكن إذا كانت جذور تلك النظريات موجودة فعلا في التراث العربي؛ فلماذا لم يصل النقاد العرب إليها قبل الغربيين؟ إن القضية لها بعد آخر يتمثل في أن النقاد العرب الذين يعودون للتراث يسقطون عليه ما أتيح لهم من استبصار ورؤية أوضح وأعمق تكونت حاليا بفضل النظريات الحداثية، وبالتالي فإن هذا الموقف الذي يرفض "النظريات النقدية الحداثية"، إنما هو متفاعل معها أصلا من خلال ما يسقطه من مفاهيمها على التراث؟ ومن ثم يصبح التراث نفسه الذين يدعون بأنه متضمن كل ما جاء في النظريات الحداثية، ليس هو التراث حقيقة، بل هو التراث المستبصر به بوعي جديد وفهم جديد، وعي وفهم حداثي في الحقيقة.
وإذا ما انتقلنا إلى المنظور الثاني فقد كان يرى في النظريات الغربية غازٍ أجنبي، لا بد من صده من خلال التراث النقدي بالعمل على تأسيس نظرية نقدية عربية، ليس بالاعتماد على قراءة متطلبات الواقع ومشكلات اللحظة الراهنة، وإنما بالاعتماد على المعطيات التراثية وحدها، لكن الأمر ليس على هذا القدر من السهولة في شأن تأسيس نظريات نقدية، يقول الدكتور ((شكري عياد)):: (((...) مبلغ علمي عن ((النظريات))، (...) أن أصحابها لا يجلسون ليقولوا: هلموا نضع نظرية. إن النظريات لم توضع، وما كانت لتوضع باختيار أصحابها.))([3])، فهو يحذر من خطر التعسف في ذلك، والحقيقة أن ما ينبغي ليس أن يكون لدينا: ((نظرية نقدية عربية))، وإنما ينبغي أن يكون لدينا: ((نظريات نقدية عربية))، وهو ما يعني البعد عن الانغلاق في دائرة أحادية النظرية، إلى تعددية وجهة النظر تجاه القضايا المختلفة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتعمق في التراث أولا، ثم التعمق في النظريات الغربية ثانيا، وبعد ذلك محاورة الواقع العربي، ومن خلال هذه المحاورة يعرض كل مفكر رؤيته تجاهها، ومن هذه الرؤى ومن التحاور بينها تخرج على مر الوقت نظريات نقدية تقدم حلولا للمشكلات المطروحة.
لذا كان لتعمد تأسيس نظرية نقدية عربية سلبيات، تمثلت في استنطاق النظريات النقدية الحداثية من خلال التراث النقدي، فتم التأكيد على أن كل ما وصلت إليه النظرية الأدبية المعاصرة كان موجودا في التراث العربي القديم، ولكن بمسميات أخرى، ومن ثم مضى المنظِّر في الكشف عن المسميات القديمة وما حل بدلا منها من مسميات جديدة، وهكذا فإن هذه المحاولة لا تختلف عن سابقتها التي تقوم برد كل المنجزات الحديثة إلى أصول قديمة، لكنها تدعي وهي تفعل ذلك أنها تُقَدِّم نظرية نقدية متكاملة الأركان. وهكذا نجد الدكتور ((عبد العزيز حمودة)) يرى أن محوري ((دو سوسير)) التعاقبي [يقصد "علاقات التراكيب"Syntagmatic والاستبدالي[يقصد "علاقات الاقتران" Associative]، قد تنبه إليهما ((عبد القاهر الجرجاني)) من قبل، ولكن تحت مسمى: ((علاقات الجوار)) و((الضم والاختيار))([4]) على التوالي، وبالصورة نفسها يحدث الأمر مع: "اعتباطية العلامة" و"اللغة" و"الكلام" وغيره من المصطلحات([5])، وهكذا دون الالتفات إلى المشكلة الحقيقية، وهي أن الممارسة النقدية بحاجة إلى أسس جديدة تتعامل بها مع الإبداعات الأدبية الجديدة، في ظل واقع نقدي انهارت فيه الرؤية النقدية الاجتماعية وأصبح يعاني حالة من الفراغ النقدي، وفي ظل واقع اجتماعي تغيرت، وتتغير فيه الحياة الثقافية الاجتماعية الاقتصادية(G).
وأخيرا فإنه يجيء الحديث عن التوجه الثالث، وهو الذي يحاول أن يفك الانغلاق عن ذاته بالنظر ليس إلى القديم وحده، ولا إلى الحديث وحده، وإنما بوصل التراث بالنظريات الحديثة، والعمل على التكامل بينهما، يقول الدكتور ((محمد عبد المطلب)): ((وبين هذين، يأتي تيار ثالث يفيد من الوافد الغربي، ويتابعه في آخر منجزاته بفهم محايد، وترحيب معتدل، كما يفيد من الموروث العربي، ويتابعه في كثير من الألفة والعطف، ثم يفرغ لنفسه في استخلاص الصالح من هذا وذاك، محاولا تشكيل وعي نقدي مزدوج وموحد على صعيد واحد، لا يعرف الانفتاح المنفلت، ولا يؤمن بالانغلاق المتجمد، وإنما انفتاحه وانغلاقه محكوم بخصوصية النص، وما يمكن أن يتقبله أو يرفضه، وقد استطاع هذا التيار أن يحقق لنفسه حضورا متزنا وأمينا في الواقع الإبداعي والنقدي على امتداد الوطن العربي.))([6])، إن هذا التيار يمتاز بأنه لا يرى أن التراث النقدي وحده كافٍ من أجل حل مشكلات النقد العربي، ولا يرى في الأخذ من الغرب انتقاصا في حق القومية العربية، وإنما عينه مفتوحة على مشكلات الواقع الأدبي والنقدي، يحاول من خلال تأمل هذا الواقع الوصول إلى حلول، عن طريق الاستفادة من معطيات كلا من "التراث النقدي"، و"النظريات المعاصرة"، بدمجهما في منظور موحد، وهو ما لم يتوفر مع أي من التيارين السابقين؛ لذا كان سمت هذا التيار أنه ذو جانب تطبيقي أساسا، وأكبر دليل على ذلك أن الدكتور ((محمد عبد المطلب)) وظف التراث النقدي في التعامل مع قصائد حداثية أساسا، بكل ما هو معروف عن هذه القصائد من سمات خاصة، قد تبدو للبعض أنها تتعارض مع التراث.
والآلية التي يتبعها هذا التيار هي العمل على رصد المتغيرات وتعليلها وتوضيح دلالتها في هدوء، دون تجني على التراث بأنه وَلَّى وانتهى زمانه، ودون الوقوع تحت سطوته بأنه هو فقط ما ينبغي أن يُتبع وما يجب أن نمشِ على هديه في النقد المعاصر، ودون تجاهل للنظريات النقدية الحديثة، ودون إغماض عين عما توصلت له هذه النظريات من إنجازات ومن استبصارات، تأمل المقولة التالية: ((لقد تسلط هذا التجريب على النص بوصفه لغة قابلة للانتهاك لا للقداسة، وبحكم حميمية الرغبة في الانتهاك، فإنه من المحال التنبؤ بملامح النص الحداثي نتيجة لإهدار كل المراجع الوضعية والواقعية والعرفية لحساب الشعرية، ثم وصل الإهدار إلى (التوصيل)، فلم يعد من المطلوب أن يقول النص شيئا ما، بل المطلوب رصد كيفية إنتاج هذا المقول، أي أن (الموضوع الشعري) لم يعد من بين اهتمامات الشعراء، إنما الاهتمام أصبح منوطا بأدوات الإنتاج وتقنيات التعبير.))([7]) ، إن رصد التغيرات الحادثة في الأدب يتم من خلال الوعي بما أفرزته النظريات النقدية الحداثية من توضيحات، "كالشعرية" و"التوصيل" و"تقنيات التعبير"، وغيره، وذلك بالتلاحم مع المعطيات التراثية التي قد تعود لقضايا فقهية أحيانا كقضية "الخنثي المشكل" مثلا([8])، وهذا الاتجاه يُطغِي اهتمامه بالقضايا التطبيقية وبمتابعة المشكلات الكامنة في الأدب العربي، عن الاهتمام بالخوض في أصول وتفريعات نظرية، قد لا يؤدي الخوض فيها إلى الوصول لفائدة تستحق العناء، ومن الواضح أن النقد العربي بحاجة إلى تنمية هذا الاتجاه وإلى تطويره والتعمق فيه، من أجل الوصول إلى حلول أساسية وجذرية لقضايا ومشكلات الأدب العربي.
بقي عليا أن أشير أن هذه النماذج الثلاثة التي تم التمثيل بها لكل توجه ليست هي فقط حاملة لواء هذا التوجه، وإنما كانت من وجهة نظري هي الصورة الأبرز والأكثر وضوحا ونقاء عن الظاهرة الممثلة، لكن هناك العديد من النقاد الذين يمكن أن يتم ادراجهم في كل فئة، وهناك نقاد تنقلوا أو توزعت جهودهم بين محورين أو أكثر من هذه المحاور، ولعل هذه الدراسة فاتحة لتتبع مواقف النقاد وتحركاتهم والبحث فيها.
أمر آخر، لا تهدف الدراسة إلى اعلاء أو اظهار توجه بأنه كان هو الأفضل دون غيره، وإنما تقدر الدراسة لكل من تم ذكره اجتهاده وموقفه الذي اتخذه من متغيرات الواقع التي واجهت الفكر العربي في وقتها، وإذ كنت الآن أرى ترجيح توجه عن باقي التوجهات فإن هذا يأتي بعد مضي أكثر من ثلاثة عقود فاصلة عن هذه التوجهات، ومن ثم فالوعي المكتسب لدى الباحث الآن لم يكن متاحا لهم، وليس للباحث فضل أو دور فيه، وإنما تراكم الخبرة وقراءة المتغيرات المتتالية هو ما يتيح امكانية الانتصار لتوجه دون آخر الآن.
لقد كان الهدف من هذه الدراسة اثبات أمرين، الأول أن الذين زعموا أنهم يمكنهم الاستغناء عن الحداثة باستخدام التراث، كانت الحداثة حاضرة في نظرتهم للتراث، وكذلك الحال أيضا، فإن من يزعمون أنهم يمكنهم الاستغناء عن التراث باستخدام الحداثة، كان التراث حاضر في حداثيتهم، لكنني لم اتناول موقفهم هنا، وانما تناولته في موضع آخر([9])، وحللت عناصر التراثية التي ظهرت في توجهاتهم الحداثية، بل إذا كانت بداية الحداثة هي محاولة استخدام التحليل اللغوي في الممارسة النقدية للوصول به لأكبر قدر ممكن من العلمية، فإننا لا نملك أية معطيات للتحليل اللغوي للنصوص العربية إلا ما وفره لنا التراث من بلاغة وعلم لغة ونحو وصرف، لذا فإن الكثير من المقولات التي يتم اطلاقها في هذا الشأن هي مقولات لا تتبصر لواقع الأمر المنجز في الدراسات التطبيقية لنقد النصوص الأدبية، ومن وجهة نظري فإن الممارسة التطبيقية في نقد النصوص الأدبية هي المعيار الأساسي للحكم على حقيقة المفاهيم التي يتبناها أي ناقد مهما قال أو ادعى بأنه يتبن هذه أو ذاك.
 





(*) أقصد بـ"النظريات النقدية الحداثية" هنا النظريات البنيوية وما بعدها.

(_ ) لقد حذفت هنا المواقف المعادية للتراث، لأن العنوان توظيف التراث، وربما في دراسة أخرى أدرس المواقف التي تعسفت في استخدام الحداثة في مواجهة التراث.
( ) ظلت لفترة المراجع الأصلية للحداثة متمثلة في البنيوية وما بعدها غير متوفرة في العالم العربي، وفي خلال هذه الفترة عندما أصدر الدكتور عبد الحميد كتابه الواردة فيه رأيه كان مقيما في السعودية، كما أنه لم يستشهد في كتابه بأي مرجع أصيل أو أساسي للبنيوية وما بعدها مكتفيا بتحليل أراء النقاد العرب الذين قاموا بدور الطليعة تجاه الحداثة، رغم ما أثبتناه في مواضع أخرى من أخطاء أساسية في فهم هذه الطليعة لهذا الفكر، ومن باب أولى لمن يريد نقدهم أن يشر لهذه الأخطاء، وقد تأكدت مما أورده هنا بمناقشتي المباشرة معه عن هذه الحقبة التي اصدر فيها كتابه ((نقاد الحداثة)) – رحمة الله عليه – فإن هذا ما أكد لي أنه لم يكن قد قرأ مصدرا اصيلا للبنيوية وما بعدها وقت اصداره كتابه، بحلاف ما حدث فيما بعد، لكنه لم يعد ليغير أو يبدل موقفه عما ورد في كتابه ((نقاد الحداثة))، بل هو إلى حد ما يتخذ موقف من قراءة هذه الكتب، وربما في وقت أخر أناقش وأحلل رؤيته العميقة ومقترحه حول (الوسطية العربية). ولمن يمتلك أدلة على خلاف ما أقول فإنني سأكون سعيدا بتلقيها حتى نصحح هذا القول، إذ من الضروري أن يكون هناك تأريخ نقدي واعي للنقاد العرب.
([1]-) أنظر: عبد الحميد إبراهيم: ((نقاد الحداثة وموت القارئ))، مطبوعات نادي القصيم الأدبي، ،بريدة، 1415هـ، صـ38.
([2]-) السابق، صـ44.
([3]-) د.شكري عياد: ((علي هامش النقد))، أصدقاء الكتاب للنشر والتوزيع، القاهرة، 1993م، صـ27.
([4]-) د.عبد العزيز حمودة: ((المرايا المحدبة: من البنيوية إلي التفكيك))، سلسلة عالم المعرفة، [عدد (232)]، الكويت، 1998م، صـ257.
([5]-) السابق، صـ257-304.
([6]-) د.محمد عبد المطلب: ((النص المشكل))، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة كتابات نقدية [92]، القاهرة، يوليو 1999م، صـ22.
([7]-) السابق، صـ32.
([8]-) السابق، صـ47.
([9]-) راجع كتابي: تلقي البنيوية في النقد العربي: نقد السرديات نموذجا، دار العلم والايمان بكفر الشيخ، 2009م.

جذور الحداثة النقدية: مبادئ ((دو سوسير)) في "الألسنية العامة"

جذور الحداثة النقدية: مبادئ ((دو سوسير)) في "الألسنية العامة"

دراسة : وائل النجمي:
تعد الألسنية من أهم الروافد التي بُنيت عليها النظريات النقدية المعاصرة، ونظرية الأدب ، وبدون معرفة أساسياتها بشكل واضح وعميق لا يمكن الوقوف على أرضية صلبة في عالم النظريات الممتلء بالكثير من الأطروحات والأفكار، هي المدخل الأساسي "للبنيوية" وما بعدها، بكل ما تحمل كلمة "ما بعد" من معان، ورغم المحاولات الحثيثة إلا أنه ما تزال هذه المبادئ في خانة الغموض للقارئ والباحث العربي، وهدف المحاولة المقدمة هنا هي تقديم تبصرة أساسية بأهم مبادئ وافكار الألسنية وفق محاضرات ((دو سوسير))، حتى تكون بداية لفهم حقيقي للنظريات المعاصرة، وسيعقب ذلك تناول للتطورات اللاحقة التي اسهمت في تشكل نظرية الأدب المعاصرة.
لقد خَلَفَ ((دو سوسير)) ((جوزيف وريشيمر)) Joseph Wersheimer في كرسي "الألسنية العامة" (La chaire de linguistique générale)،في جامعة (جنيف)، إثر تقاعد الأخير في عام (1906م)، ومن ثـَمَّ ألقي ((دو سوسير)) ثلاثة مجموعات من المحاضرات كان تاريخها علي النحو التالي: (1906م-1907م) و(1909م-1910م) و(1910م-1911م)، ولم يجمع ((دو سوسير)) هذه المحاضرات في كتاب ولم ينشرها هو، خاصة مع مرضه في صيف عام (1912م)، ثم وفاته في الثاني والعشرين من فبراير عام (1913م). وبعد وفاته شعر طلبته وزملائه بأهمية تلك المحاضرات، وبما فيها من فكر رصين؛ فعملوا علي نشر ما ألقاه من محاضرات في كتاب، وواجه ذلك صعوبة شديدة؛ لكون ((دو سوسير)) لم يحتفظ إلا بالقليل من المسودات الخاصة بتلك المحاضرات، ومن ثَمَّ لم يكن هناك حل سوي المذكرات التي قيدها الطلبة الذين حضروا له سلاسل محاضراته الثلاث، وكان ((دو سوسير)) قد ألف كل مجموعة منها تأليفا جديدا، ووفق خطة مختلفة، وكانت هذه المذكرات تحوي كما هائلا من التكرار، والتعارضات أحيانا، لذا أقدم كل من ((شارل بالي)) Charles Bally، و((ألبرت زيشيهاي))Albert Sechehaye ، زميلا ((دو سوسير)) اللذان لم يحضرا المحاضرات بنفسهما، علي الاجتهاد في أن يؤلفا من ذلك عملا موحدا، يحاولا فيه تحقيق بنية مركبة، مع التسليم بأولوية السلسلة الثالثة من المحاضرات، دون إهمال السلسلتين الأخرتين، وملاحظات ((دو سوسير)) القليلة التي سجلها بنفسه، وقد نشرا ذلك بمعاونة ((ألبرت ريدلنجر)) Albert Riedlinger في عام (1916م) تحت عنوان: ((محاضرات في الألسنية العامة)) (Cours de Linguistique Générale)، وجدير بالذكر أن مذكرات الطلبة نفسها لم تكن متاحة للقراء حتى عام (1967م)، إذ في ذلك الوقت بدأ ((رودلف إنجلر)) Rudolf Engler في نشرها وتقديمها لجمهور القراء.([1])
والقضية الجوهرية التي ركز عليها ((دو سوسير)) في محاضراته، هي قضية العلمية والرغبة في الانضباط والمنهجية، وفي الوصول إلي نتائج دقيقة مستقرة في مجال الدراسات اللغوية؛ لذا نبه إلي أن تناوله "للألسنية" Linguistics هو تناول من حيث حقيقتها linguistics Proper، ومن حيث ما يجب أن يكون فيها، وقد كان من ثمرة هذا التناول أنه وضح مجموعة من المفاهيم كان لها أثر كبير علي دراسة "الألسنية" نفسها، وعلي "النقد الأدبي" والعلوم الإنسانية بعامة، وسأتناول هنا أهم هذه المفاهيم وأكثرها أثرا علي "النقد الأدبي".([2]) 

"اللغات" [Langage] Languages و"اللغة" [Langue] Language و"الكلام " [Parole] Speech:

يفرق ((دو سوسير)) بين كل من "اللغات" Languages  [Langage]، و"اللغة" [Langue] Langue، و"الكلام"Speech [Parole] ، وهذه التفرقة كان لها أثر بعيد سواء علي "الألسنية" ذاتها، أو علي تعلم اللغات، أو علي "البنيوية" نفسها فيما بعد، خاصة عندما تم التوسع في استخدام هذه التفرقة بالاعتماد علي القياس، كما يذكر ((ليونارد جاكسون)) Leonard Jackson([3]). وفي هذه التفرقة لا ينظر إلي "اللغة" علي أنها "كيان متجانس" Homogeneous Entity، وإنما علي أنها تَجَمُّع لمفردات مركبة معا، ويري أن في كل فرد توجد "قدرة" تسمي: "قدرة إنتاج اللغة" Faculty of Articulated Language، وهي "قدرة" متاحة لنا جميعا في حالة أولية، من خلال الإمكانات العضوية المزود بها الجسم، لكن هذه "القدرة" لا يمكن استعمالها فعليا، ما لم يغذيها شيء آخر من خارج الفرد نفسه، هذا الشيء يكتسب الفرد براعته فيه، ويتقدم في تعلمه من خلال جهوده مع نظرائه في مجتمعه، وذلك الشيء هو ما يطلق ((دو سوسير)) عليه: "اللغة"Language  [langue]، وهي تعني هنا "نظام اللغة". وتَمَثُّل الفرد لهذا "النظام" هو ما يتيح له إمكانية استخدام تلك "القدرة" في التعبير عن مقاصده وأغراضه، وأفكاره الخاصة، وهذا الاستخدام "للغة"، وممارستها من قِبَل الفرد هو ما يطلق عليه "الكلام" [Parole] Speech.
وهذان التمييزان بين "اللغة" كقواعد ونسق، وبين استخدام الفرد لهذه القواعد ـ "الكلام" ـ، يقعان أساسا داخل المقدرة البشرية العامة علي التحدث باللغات، تلك المقدرة التي أنتجت "اللغة"، ومع اختلاف المجتمعات والأماكن الجغرافية؛ أنتجت العديد من "اللغات" المختلفة، التي ينقل بها متحدثوها معانيهم المرادة منهم إلي الآخرين، وهذه المقدرة البشرية العامة بما أنتجته من "لغات" مختلفة ومتنوعة، هي ما يطلق عليها ((دو سوسير)) مصطلح "اللغات" Languages [Langage].
ويجعل ((دو سوسير)) مهمة الألسني في ظل هذه التفريقات هي البحث في "اللغة" ودراستها، وليس البحث في "الكلام"، ومن خصائص "اللغة" عنده أنها "منتج اجتماعي" Social Product، فهي ليست من صنع فرد، وإنما هي في الحقيقة تعود إلي المجتمع كله، إذ يسهم في إنتاج "اللغة" جميع أفراد هذا المجتمع، فإذا ما استطعنا استحضار كل ما هو كامن في عقول جميع أفراد هذا المجتمع، حتى وهم نائمون، نكون قد حصلنا علي "اللغة" الخاصة بهم كما يقول، ومن ثَمَّ فإن مثار اهتمام الدراسة الألسنية هي "الخبرة المترسبة" Hoard Deposited في عقول جميع أفراد المجتمع.
وفي مقابل ذلك، فإن من خصائص "الكلام" أنه فردي، فهو يعود إلي الفرد الذي ينشئه، وإن كان الفرد ينشئ "كلامه" من خلال ما تحدده له "اللغة" من قواعد ونسق، وبما يختار هو منها من بدائل متاحة له فيها، ولكن علي الرغم من ذلك، فإن هناك علاقة متبادلة بين "اللغة" و"الكلام"، يشير إليها ((دو سوسير)) ويؤكد علي أهميتها، وهي علاقة ارتباط وجود أحدهما بالآخر، إذ ـ كما يعلق ((فيليب ب.وينر)) Philip P.Wiener علي رأي ((دو سوسير)) حول هذه العلاقة ـ ((بدون "اللغة" يصبح "الكلام" مجرد تفوه صرف ليس له معني أو دلالة، وبدون "الكلام" تصبح "اللغة" شيئا مجردا، ونظاما فارغا ليس له فائدة))([4]).

"علاقات الاقتران" Associative و"علاقات التراكيب"Syntagmatic :

حاول ((دو سوسير)) شرح كيفية تأليف "الكلام"، وذلك من خلال توضيح العلاقات التي يقيمها الفرد بين الكلمات عند محاولة تأليفه "للكلام"، ومن ثم رأي ((دو سوسير)) أن العقل البشري يقيم نوعين من العلاقات بين "الكلمات"، النوع الأول: علاقات خارج "الكلام" نفسه، وهي علاقات تنشأ في الذاكرة بين "الكلمات" التي تنتمي إلي مجموعات مختلفة، أو متتاليات مختلفة، أو فئات مختلفة، لكي تدخل في علاقات تنوع، داخل الفئة الواحدة، وهذه هي ما يطلق عليها ((دو سوسير)) "علاقات الاقتران" Associative Relations. أما النوع الأخر: من العلاقات، فهي علاقات توجد داخل الكلام نفسه، إذ تصبح الكلمات هنا خاضعة لنوع من العلاقات يختلف عن النوع الأول، لكنه نوع يتحكم في "الكلمات" من خلال ما يفرضه الترابط الحادث بينها، وهذا النوع من العلاقات يطلق عليه ((دو سوسير)) "علاقات التراكيب" Syntagmatic Relations.
وقد وضَّح ((دو سوسير)) أنه عند الحديث عن معني الكلمة، نعود إلي النوع الثاني من العلاقات ـ "علاقات التراكيب" ـ، إذ في هذا النوع نجد هناك وحدات مرتبطة معا، ضمن نظام محدد، لكن عند الحديث عن النوع الأول من هذه العلاقات ـ "علاقات الاقتران" ـ، لا نجد أية وحدات مرتبطة معا، ولا أية ترتيب يحكم تجمع هذه الوحدات الموجودة في تلك العلاقات، ومن ثم يغدو البحث فيها غير مفيد، وعليه يري ضرورة توجه البحث الألسني إلي النوع الثاني من هذه العلاقات، أي إلي "علاقات التراكيب" Syntagmatic Relations.
و"علاقات التراكيب" هذه، هي علاقات أفقية، تسير في مسار خطي مع الزمن، عند النطق بالكلمات المختلفة التي تمثل وحدات الجملة، فمثلا عند النطق بالجملة التالية: ((القطة فوق الحصيرة)) [The cat sat on the mat.]، نجد أن المعني يتحدد في هذه الجملة من خلال ما تدخل فيه الكلمات من علاقات أفقية مع بعضها البعض داخل تلك الجملة، ويتكشف المعني هنا تدريجيا مع المضي في الزمن أثناء النطق بمفردات الجملة، وبالتالي عند محاولة الإجابة علي سؤال كالتالي: ((أين القطة؟))، لا يمكن تحديد الإجابة إلا بالنظر إلي العلاقات التي تتخذها الكلمات بالنسبة إلي بعضها البعض، إذ لو أبدلنا ((الحصيرة)) مكان ((القطة)) في تلك العلاقات؛ لتصبح الجملة علي النحو التالي: ((الحصيرة فوق القطة)) [.The mat sat on the cat]، سوف تختلف الجملة كثيرا من حيث معناها، وستصبح الإجابة علي هذا السؤال مختلفة.
ومثل هذا التغير في الجملة هو تغير في "علاقات التراكيب"، لأنه تغير في المسيرة الأفقية للجملة، لكن لو أبدلت ((القطة)) بكلمة أخري مثل كلمة ((الفأر)) مثلا، لتصبح الجملة: ((الفأر فوق الحصيرة)) [The rat sat on the mat.]، سوف يكون التغير الحادث هنا هو تغير في "علاقات الاقتران"، وواضح أنه تغير لا يحدث علي مستوي أفقي، وإنما يحدث علي مستوي رأسي، من خلال استبدال ((القطة)) بما قد يقترن بها من مفردات أخري في عقل المتكلم، ويري ((دو سوسير)) أن هذا "الاقتران" بين المفردات المختلفة لا يحدث من خلال ما هو متاح من بدائل لغوية توفرها اللغة، وإنما يحدث من خلال تلك المجموعات التي ترتبط بها الكلمة مع مجموعة أخري من الكلمات، يجمع بينها عقل المتكلم في ترتيب من صنيعه؛ لذا فإنه من الممكن أن ترتبط كلمة مثل كلمة ((التعليم)) Education في ذهن فرد ما بكلمات أخري لها نفس المقطع التي تنتهي به هذه الكلمة (-tion)، فتصبح في ذهنه مرتبطة بكلمات مثل: ((التحاق)) Association، أو ((تقديس)) Deification، أو غيره، كما يمكن أيضا لهذه الكلمة أن ترتبط مع كلمات أخري تشابهها في مؤداها، كأن ترتبط كلمة ((التعليم)) بكلمات مثل: ((مدرس)) Teacher، أو ((كتاب مدرسي)) Textbook، أو ((كلية)) College، أو غير ذلك، كما يمكن لها أيضا أن ترتبط بأشياء أخري ليس بينها علاقة حقيقة، ولكن ربما أن الفرد يحبها، كأن ترتبط كلمة ((التعليم)) بكلمات مثل ((كرة القدم الأمريكية)) Baseball، أو ((ألعاب الكومبيوتر)) Computer Games، أو ((التحليل النفسي)) Psychoanalysis، أو غير ذلك من الكلمات المختلفة، التي يجمع بينها عقل الفرد طبقا لترتيبه الخاص([5]).
ومع مرور الوقت، تغير مصطلح ((دو سوسير)) الأساسي الذي استخدمه ليفيد معنى "علاقات الاقتران" Associative Relations، ليتحول إلي مصطلح آخر هو: "علاقات الاستبدال" Paradigmatic Relations، ويري ((جاكسون)) أنه هناك ضرورة للتنبيه بأن ((دو سوسير)) لم يستخدم أبدا مصطلح "علاقات الاستبدال" Paradigmatic Relations هذا؛ وذلك لأن مصطلح "علاقات الاقتران" Associative Relations، أكثر اتساعا وأفضل بكثير في التعبير عن فحواه، من مصطلح "علاقات الاستبدال" Paradigmatic Relations، الذي استخدم في "الألسنية" لاحقا، وصار ينسب إلي ((دو سوسير)) بكثرة، سواء في الشروح الكثيرة التي تناولته، أو في وجهات النظر التي تتعارض معه وتنقضه([6]).


"الكلمة" Word، و"النظام" System، و"القيمة" Value:

رأي ((دو سوسير)) ضرورة النظر إلي "الكلمة" Word علي أنها "عضو" في نظام، تترابط فيه مع غيرها من "الكلمات" التي هي أعضاء أيضا في نفس هذا النظام، إذ هو يشدد علي ضرورة النظر إلي "الكلمات" علي أنها أجزاء Terms ـ التأكيد من عند ((دو سوسير)) ـ في "نظام" System، ويؤكد علي ضرورة عدم البدء بالكلمة من أجل الوقوف علي النظام ذاته، وذلك لكونه يعطي إيحاء بأن الكلمة تمتلك "قيمة" Value في نفسها، وهذا ليس صحيحا؛ إذ القيمة التي تكتسبها الكلمة تكتسبها من خلال دخولها في علاقة مع غيرها من الكلمات، وعليه فإنه يجب البدء من النظام نفسه، من ذلك "الكل المترابط" Interconnected Whole، فالكلمة لا تمتلك أي معني في ذاتها، ودليل ذلك أنها تتخذ أكثر من معني في سياقات متعددة.
وأشار ((دو سوسير)) إلي أن مصطلح "القيمة" Value، غالبا ما ينظر البعض إليه علي أنه مرادف لمصطلح "المعني" Meaning، وذلك ليس صحيحا، "فالقيمة" هي عنصر في "المعني" ـ فهي تساعد علي تبيانه ـ، لكن لا يجب النظر إلي "المعني" علي أنه أي شيء آخر بخلاف "القيمة" ـ أي علي أنه يتواجد بذاته، دون ما تقتضيه القيمة من دخول الكلمة في علاقات تسفر عن تحديد معني "الكلمة"؛ وذلك يخالف الرؤية التي كانت سائدة من قبل حول "المعني" والتي كانت تراه كامنا في "الكلمة" نفسها، يقول ((دو سوسير)) حول تحديد "المعني" من خلال "النظام" الذي يحدد علاقات الكلام ببعضه: ((النظام يقود إلي الكلمة، والكلمة تقود إلي القيمة، وهكذا تري أن المعني يتحدد بالحاشية التي تقع حول الكلمة)).
وفي إطار رؤيته لعدم تشكل "المعني" إلا من خلال "نظام العلاقات"، رأي ((دو سوسير)) أن أفكارنا ـ من حيث كونها معاني ـ ما هي في الحقيقة إلا جزء من "اللغة"، إذ فكرنا بدون "اللغة" يصبح "هلاما" ليس له معالم، وعلي هذا خلص ((دو سوسير)) إلي إقرار أنه ما من أفكار موجودة أو محددة من خلال نفسها، أو حتى من خلال "الأفكار" السابقة عليها، إذ لا يمكن تحديد أية "أفكار" من خلال "الأفكار" نفسها، وكذلك فما من "علامات" Signs موجودة لهذه "الأفكار"، فهو يري أنه لا يوجد أبدا "فكرة" Idea، أو تفكير سابق علي وجود "العلامة الألسنية" Linguistic Sign.

"العلامة" Sign [Signe]، و"الدال" Signifier [Signifiant]، و"المدلول" Signified [Signifié]:

ويري ((دو سوسير)) أيضا أن "الكلمة" Word تتكون من عنصرين أساسيين، الأول هو: "المفهوم" Concept، أما العنصر الآخر فهو: "الصورة السمعية" Auditory Image، ونبه ((دو سوسير)) إلي أن "الصورة السمعية" ليس المقصود بها الجانب المادي للصوت Physical Sound، أي ليس ذلك الصوت الناشئ عن تحريك الفم، أو الذي تسمعه الأذن، وإنما هو :"الأثر النفسي" Psychological Imprint الذي يتركه الصوت فينا، فمثلا عندما يتحدث المرء مع نفسه، كأن يستعيد قطعة شعرية في ذاكرته مثلا، فإن الفرد هنا يتحدث مع نفسه دون أن يحرك شفتيه أو لسانه، أي دون أن يحدث صوتا من الناحية المادية، لكنه يتحدث مع نفسه من خلال الأثر النفسي الذي يتركه الصوت في ذهنه، تلك هي "الصورة السمعية" التي يقصدها ((دو سوسير)).
وكل من "المفهوم" و"الصورة السمعية" يرتبطان معا بشكل وثيق حتى أن أحدهما يستحضر الآخر في ذهن الفرد، أنظر إلي الرسم الموجود في الشكل رقم (1) والذي يوضح به ((دو سوسير)) "المفهوم" و"الصورة السمعية" علي النحو التالي:


[شكل رقم (1)]
فإذا ما أخذنا مثلا مفهوما كـ "شجرة"، سوف نجد أن له العديد من "الصور السمعية" المختلفة في اللغات المختلفة، وعند أفراد أحد هذه اللغات، فإن "الصورة السمعية" المعبر بها عن المفهوم "شجرة" فيها، تستحضر عندهم ذلك المفهوم "شجرة"، بينما لدي أفراد لغة أخري تستحضر عندهم "صورة سمعية" أخرى، هذا المفهوم، أنظر إلي الشكل التالي:


[شكل رقم (2)]
ويطلق ((دو سوسير)) علي "المفهوم" مصطلح "المدلول" Signified [Signifié]، ويطلق علي "الصورة الصوتية" المقترنة بهذا المفهوم مصطلح: "الدال" Signifier [Signifiant وهما الشقان اللذان تتكون منهما "العلامة" Sign [Signe]، أما الشيء نفسه كما هو في الواقع؛ إذ تحدث ((دو سوسير)) هنا عن "المفهوم" وليس عن الشيء نفسه، فهو يتحدث عن مفهوم /شجرة/ وليس "الشجرة" نفسها، أما تلك الموجودة في الواقع، فإن ((دو سوسير)) يطلق عليها مصطلح "المرجع" Referent.
وحدد ((دو سوسير)) بعد ذلك طبيعة "العلامة"، فذكر أنها "اعتباطية" Arbitrary تماما، بمعني أن الترابط الذي يحدث بين "الدال" و"المدلول"، لا يحدث وفقا لأية معايير أو الزامات، وإنما يحدث بطريقة "اعتباطية" تماما، فمثلا: ما من مبرر معين يجعل المفهوم "شجرة" ـ "المدلول" ـ يُعَبَّر عنه في "اللغة العربية" بالدال "ش.ج.ر.ة"، والدليل علي ذلك أنه يعبر عنها بدال آخر في اللغات الأخرى، كـ "ت.ر.ي" TREE في الإنجليزية، و "أ.ر.ب.ر" ARBRE في الفرنسية وهكذا.
وأجاب ((دو سوسير)) علي من يعترض علي مبدأ "الاعتباطية"، بوجود أصوات تختار لكونها تبدو تقليدا للصوت المختار، كألفاظ مثل: wow بالإنجليزية ـ ouâ بالفرنسية ـ wau بالألمانية ـ bau بالإيطالية ـ واو بالعربية، بأنه علي الرغم من كون هذه الحالات قليلة، إلا أنها تحوي أيضا جوانب "اعتباطية"، فهي لا تعدو أن تكون اختيارا لمحاكاة تقريبية شبه متفق عليها بين "اللغات"، لكنها ما إن تقحم في "لغة" ما، حتى تخضع لها صوتيا وصرفيا، كما تخضع المفردات الأخرى لها.
ومبدأ "الاعتباطية" يحتل مكانة خاصة في تفكير ((دو سوسير))، إلي درجة أنه ينبه إلي أن أهمية مبدأ "اعتباطية" العلامة ربما لا تتضح من الوهلة الأولي. فإذا كانت "العلامة" في أساسها "اعتباطية" وليس هناك ما يحدد إلحاق "دال" معين بـ "مدلول" معين؛ فما الذي يتحدد به "الدال" و"المدلول" ويمنع من تشوشهما؟ وهنا يجيب ((دو سوسير)) بأن العامل الوحيد الذي يمنع تداخل وتشوش "الدال" و"المدلول" هو "الاختلاف" Difference أي اختلاف كل "علامة لغوية" عن الأخرى، يقول: ((سواء كنت تتحدث عن "المعاني" أو عن عناصر "الدال" و"المدلول" فإنه لا يوجد إلا "الاختلاف" فقط (...) ففي الواقع لا يوجد "علامات" وإنما يوجد فقط "اختلاف" بين "العلامات")).
وفي هذا الشأن فإنه كثيرا ما يشار إلي تقسيم آخر للعلامات، وهو تقسيم ((تشارلز سوندرس بيرس)) Charles Sanders Peirce (1839م-1914م)، وهو لا يقيم تقسيمه للعلامات علي أساس "الاعتباطية" كما هو الحال عند ((دو سوسير))، وإنما يقسم العلامات إلي ثلاثة أنواع هي "الأيقون" Icon، و"المؤشر" Index، و"الرمز" Symbol، وقد عرف كل منها علي النحو التالي:
"الأيقون" Icon: هو العلامة التي تشير إلي الموضوعة التي تعبر عنها عبر الطبيعة الذاتية للعلامة فقط. وتمتلك العلامة هذه الطبيعة سواء وجدت الموضوعة أم لم توجد. صحيح أن الأيقون لا يقوم بدوره ما لم يكن هناك موضوعة فعلا، وليس لهذا أدني علاقة بطبيعته من حيث هو علامة. وسواء كان الشيء نوعية، أو كائنا موجودا، أو عرفا، فإن هذا الشيء يكون أيقونا لشبيهه عندما يستخدم كعلامة له.
أما "المؤشر" Index فهو علامة تشير إلي الموضوعة التي تعبر عنها عبر تأثرها الحقيقي بتلك الموضوعة. فهي لا يمكن أن تكون، إذن، العلامة النوعية لأن النوعية ماهية مستقلة عن أي شيء آخر. وبما أن المؤشر يتأثر بالموضوعة. فالمؤشر يتضمن، إذن، نوعا من الأيقون مع أنه أيقون من نوع خاص. فليست أوجه الشبه فقط ـ حتى بصفتها مولـّدة للعلامة ـ هي التي تجعل من المؤشر علامة وإنما التعديل الفعلي الصادر عن الموضوعة هو الذي يجعل من المؤشر علامة.
أما "الرمز" Symbol فهو علامة تشير إلي الموضوعة التي تعبر عنها عبر عرف، غالبا ما يقترن بالأفكار العامة التي تدفع إلي ربط الرمز بموضوعته. فالرمز، إذن، نمط عام أو عرف أي أنه العلامة العرفية ولهذا فهو يتصرف عبر نسخة مطابقة. وهو ليس عاما في ذاته فحسب، وإنما الموضوعة التي يشير إليها تتميز بطبيعة عامة أيضا. إن العام يتحقق من خلال الحالات التي يحددها. ولهذا لا بد من وجود حالات لما يعبر عنه الرمز))([7]).
ويري ((جوناثان كولر)) أن هذا التقسيم للعلامات، بشقيه الأول والثاني غير مفيد للبحث في المجالات الثقافية، وإن كانت كلها تصر علي أن "العلامة" هي في النهاية، "شكل" يَدُل و"معني" يُدَل عليه، إلا أن القسم الثالث من هذا التقسيم حيث العلاقة بين "الدال" و"المدلول" علاقة "عرفية" بتعبير ((بيرس)) ـ ويري ((كولر)) من منظوره أن مصطلح "عرفية" مساو لمصطلح "اعتباطية" عند ((دو سوسير)) ـ هو ما يجب حقا أن نتوجه إليه وأن نهتم به، وذلك لأن هذا النوع من العلامات يحث علي دراسة نظام الأعراف الذي تخضع له وتنتج المعني من خلاله، ولا يمكن شرح هذه العلامات إلا عن طريق دراسة هذا النظام وإعادة بنائه، وبالتالي يري ((كولر)) أن هذا التقسيم لا يتعارض مع تقسيم ((دو سوسير))، وإنما هو تأكيد ودليل علي صواب رؤية ((دو سوسير)) للعلامة الألسنية([8]).
وتواجه رؤية ((دو سوسير)) حول "العلامة" و"اعتباطيتها" بهذا الشكل الكثير من الاعتراضات، منها الإحساس الذي يتسرب إلي المرء بأن "العلامات" بها شيء طبيعي من "المفهوم" الذي تعبر عنه، كالإيحاء بأن هناك ما هو كبير وضخم في كلمة "فيل"، وإن كان يمكن الرد علي ذلك بأنه ربما يرجع لكوننا نفكر عمليا بهذه العلامات طوال الوقت، مما يعزز العلاقة بين "الدال" و"المدلول"، حتى تبدو وكأنها علاقة طبيعية تماما، لكن مبدأ "الاختلاف" الصرف الذي يبنيه ((دو سوسير)) علي مبدأ "اعتباطية العلامة" هو ما يثير القلق، وذلك لأن الإقرار بكون "العلامة" لا تتحدد قيمتها إلا بكونها تخالف كل "العلامات" الأخرى؛ يؤدي إلي الكثير من الخلط والتشويش عند محاولة الوقوف علي معني "كلمة" ما، حتى لو كانت هذه "الكلمة" بسيطة، ككلمة "الخالة" مثلا، إذ طبقا لمنطق ((دو سوسير)) سنضطر لتعريفها بأنها
ـ كما يذكر
((ليونارد جاكسون)) ـ: ((ليس أبا ليس أما ليس أختا ليس فيلا ليس نمرا ليس... ليس....)) إلي أن يتم استنفاد جميع الخيارات اللغوية الأخرى المتاحة، وبهذا نكون ساعتها قد عرفنا كلمة "خالة"، وواضح أن ذلك بهذه الطريقة أمر مستحيل منطقيا([9]).
لكن ((دو سوسير)) يصر ويؤكد في محاضراته علي مبدأ "الاختلاف" هذا، وسوف تبقي هذه النقطة من أكثر النقاط ضعفا في فكره، وهي أكثر النقاط التي سوف يوجه إليها الكثير من الانتقادات بعد ذلك، وهي ما سوف تتخذ منه "ما بعد البنيوية" Poststructuralism حجة علي عدم قدرة التفكير البنيوي علي تحديد وتعريف معني ما في أية ممارسة إنسانية([10]).
وفي نهاية الحديث عن "العلامة" و"الدال" و"المدلول" عند ((دو سوسير))، ينبغي الإشارة إلي ملاحظة هامة، وهي أن ((دو سوسير)) هنا لا يبدي أي اهتمام "بالمعني" كما هو في الواقع، فهو غير مهتم بكيفية تكونه، أو بكيفية إدراكه، أو غير ذلك من الأمور التي يتناولها الفلاسفة عادة عند التعامل مع "المعني"، وإنما اهتمامه الأساسي موجه إلي "اللغة" بوصفها "نظاما" و"قواعدا"، ومن ثم يسعى إلي تحديد هذا "النظام" ويسعى إلي الكشف عن هذه "القواعد"، دون توجيه أي اهتمام إلي كشف أو تحديد "المعني" الذي سوف يعمل هذا "النظام" وهذه "القواعد" علي نقله وإنتاجه في "كلام" أو"كتابة" الأفراد المتحدثين "باللغة"([11]).

محوري "التزامن" Synchronie، و"التعاقب" Diachronie:

يشير ((دو سوسير)) إلي أن البحث الألسني قد تجاهل لفترة طويلة البحث في اللغات في حالاتها السكونية states Static، وقد كان هذا النوع من البحث سائدا منذ ألاف السنين من قبل، ثم أُهمِل منذ القرن التاسع عشر، إذ عمد فقهاء اللغة في تلك الفترة إلي دراسة النصوص المكتوبة بلغات ميتة، بهدف اقتفاء أثر تاريخ اللغات، وتحديد ما طرأ عليها من تغير، خاصة تلك التغيرات التي حدثت في النواحي الصوتية، دون إهمال التغيرات التي حدثت في القواعد والمفردات، وكان من نتيجة دراساتهم "التعاقبية" Diachronic تلك ما توصلوا إليه من رسم شجرة عائلة تجمع بين لغات مثل الفرنسية والأسبانية والإيطالية، كلغات مشتقة من اللاتينية، وشجرة أخري تجمع بين الإنجليزية والهولندية والألمانية، كلغات لها سلف جرماني، ثم أرجعوا الشجرتين إلي سلف "هندو ـ أوروبي" أصلي، رأوا أنه ربما كان متحدثا بها في المجر أو أوكرانيا أو إيران منذ ألاف السنين قبل ذلك([12]).
وهذا البحث لا يؤدي الغرض المطلوب منه من وجهة نظر ((دو سوسير))، فهو يري أنه علي الرغم من الجهد الضخم المبذول فيه عند استقصاء النواحي التاريخية والتطورية التي حدثت في "لغة" ما من "اللغات" المختلفة، إلا أنه غير كاف أبدا للوقوف علي "العلامات" وتحديدها في "لغة" ما، من دون دراسة هذه "اللغة" دراسة "تزامنية" Synchronic، ومرد ذلك أن "العلامات" علي الرغم من كونها "اعتباطية"، أي أنها تخضع للتاريخ في تطورها وتغيرها، إلا أنه نظرا "لاعتباطيتها" هذه لا يمكن تحديدها ومعرفتها معرفة صحيحة، في فترة زمنية محددة، إلا بالنظر إلي علاقاتها بالعلامات الأخرى، في تلك الفترة، ودراسة هذه العلاقات دراسة "تزامنية"، تهدف إلي الكشف عنها وتحديدها، وليس إلي معرفة تطوراتها وتغيراتها.
وهو يري أن الدراسة "التزامنية" التي تعمد إلي الوقوف علي العلاقات والخصائص التي تحكم "لغة" ما من "اللغات" في فترة زمنية معينة، تعين وتساعد أيضا في القيام بدراسات "تعاقبية" تهتم بالجوانب التطورية في "اللغات" المختلفة، وعلي نحو أكثر علمية أيضا؛ وذلك لأنه يري أن "النظام" الذي تخضع له "لغة" من "اللغات" لا يتغير كله تماما في تطوره التاريخي، أي أن ليس "نظاما" محددا قد أنتج "نظاما" آخر، وإنما ما حدث هو أن بعض عناصر هذا "النظام" السابق حدث فيها تغير، والتغير في بعض عناصر "النظام" كفيل بأن يُخرِج إلي الوجود "نظاما" آخر مختلفا عنه، وبالتالي فإن الوقوف علي "النظام" في حالته السابقة، وتحديده تحديدا علميا دقيقا، من خلال دراسته دراسة "تزامنية"، يؤدي إلي التعرف بشكل أيسر علي العناصر التي تغيرت وأنتجت "النظام" التالي له، والتي تتضح بسهولة أيضا عند دراسة ذلك "النظام" التالي دراسة "تزامنية"، وهكذا فإنه من خلال القيام بالعديد من الدراسات "التزامنية" لفترات زمنية متعددة، يمكن بناء معرفة "تعاقبية" "للغة" بشكل أكثر علمية عما إذا تم الاعتماد علي الدراسة "التعاقبية" فقط([13]).
كانت هذه هي أهم أفكار ((دو سوسير)) في محاضراته، وقد تعرضت هذه الأفكار إلي التعديل والتطوير، وأحيانا إلي إساءة التفسير أيضا، أو بتعبير ((ليونارد جاكسون)) تم إعادة بناء ((دو سوسير)) بحيث يخدم أغراضا معينة([14])؛ لذا فمن الضروري فهم آراءه الأساسية علي وجهها الصحيح، ومعرفتها معرفة دقيقة، وجدير بالملاحظة أن ((دو سوسير)) ألقي محاضراته وأوربا علي حافة انهيار تاريخي كما يقول ((تيري إيجلتون)) Terry Eagleton([15])، ولم يعش ((دو سوسير)) لكي يري أثار هذا الدمار الذي تركته الحرب العالمية الأولي، ولا الثورات التي اجتاحت أوربا بعدها، وهي الثورات التي سحقت جميعها بعنف شديد، وفي ظل هذا الوضع السياسي والاجتماعي المظلم تم إعادة تنظير أراء ((دو سوسير))، وتوسيع دائرة تطبيقها، لتنتقل من حقل "الألسنية" إلي حقول أخري كثيرة، وكانت البداية في ذلك مع "الشكلية الروسية" Russian Formalism، وهي ما سأتناولها في المحور التالي.




[1])-) أنظر: جوناثان كولر: ((فرديناند دي سوسير)) (أصول اللسانيات الحديثة وعلم العلامات)، مرجع سابق، صـ64- 68.
([2]-) كل ما أترجمه أو أحيل إليه من محاضرات ((دو سوسير))، يعود إلي المرجع التالي:
Ferdinand de Saussure: Third Course of Lectures on General Linguistics, (1910-1911), publ. Pergamon Press, 1993, Taken From The Internet, Date: 02-02-2006,=
 «http://www.marxists.org/reference/subject/philosophy/works/fr/saussure.htm»
([3]-) ليونارد جاكسون: ((بؤس البنيوية (الأدب والنظرية البنيوية)))، ترجمة: ثائر ديب، وزارة الثقافة، دمشق،2001م، صـ80.
([4]-) Philip P.Wiener: The Dictionary of the History of Ideas: Structuralism, Volume 4, p.p.323-324, Electronic copy, Made and Published On The Internet by: University of Virginia Library (Gala Group), Date: 20-02-2006,
«http://etext.lib.virginia.edu/cgi-local/DHI/dhi.cgi?id=dv4-42»
([5]-)See: Dr.Mary Klages: Structuralism and Saussure, Taken From The Internet, Date: 25-04-2006,
«http://www.colorado.edu/English/ENGL2012Kla ges/saussure.html»
([6]-) ليونارد جاكسون: ((بؤس البنيوية))، مرجع سابق، صـ90.
([7]-) تشارلز سوندرس بيرس: ((تصنيف العلامات))، مجموعة مختارة ترجمة: فريال جبوري غزول، ضمن كتاب: ((أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة)) (مدخل إلي السيميوطيقا) ، إشراف: سيزا قاسم، ونصر حامد أبو زيد، دار الياس العصرية، القاهرة، د.ت، صـ142.
([8]-) أنظر: جوناثان كولر: ((فرديناند دي دي سوسير))، مرجع سابق، صـ166.
([9]-) أنظر: ليونارد جاكسون: ((بؤس البنيوية))، مرجع سابق، وصـ 316-317.
([10]-) See: Catherine Belsey: Post-Structuralism, Avery Short Introduction, Oxford University Press, Oxford, 2005, P.10.
([11]-) See: Dr.Mary Klages: Structuralism and Saussure, Op.Cit.
([12]-) راجع: ليونارد جاكسون: ((بؤس البنيوية)) مرجع سابق، صــ82-83.
([13]-) راجع: جوناثان كولر: ((فرديناند دي سوسير))، مرجع سابق، صـ92-103.
([14]-) يلح ((جاكسون)) علي هذه النقطة كثيرا في كتابه: ((بؤس البنيوية))، وهو يجعل من الدفاع عن إساءة قراءة ((دو سوسير))، ومن توضيح الخلط الذي تتعرض له أرائه عند الكثيرين، هما أساسيا في كتابه هذا، راجع: ليونارد جاكسون: ((بؤس البنيوية))، مرجع سابق، صـ17، 32، 102-103، 167، 304.
([15]-) أنظر: تيري ايجلتون: ((مقدمة في نظرية الأدب))، ترجمة: أحمد حسان، الهيئة العامة لقصور الثقافة، [سلسلة كتابات نقدية رقم (11)]، القاهرة، سبتمبر 1991م، صـ73.

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان)

مفهوم وحدة القصيدة عند النقاد الرومانسيين (جماعة الديوان) بحث: الناقد وائل النجمي يعد مفهوم "وحدة القصيدة" من المفاهيم اله...