تحولات النقد العربي من "الإحيائية" إلي "الواقعية": 1- الاحيائية
الناقد والباحث: وائل سيد عبد الرحيم
لا شك أن الوقوف علي الماضي يسهم في فهم
الحاضر، ويساعد على تفادي الأخطاء في المستقبل. من
هذا المنطلق أقدم هذه الدراسة التي أحاول فيها الوقوف على الممارسة النقدية
العربية في تحولاتها الماضية منذ
"الإحيائية" مرورا "بالرومانسية" وحتى "الواقعية".
وذلك
كخطوة أولي في تقديم مراجعة "للنقد العربي" في مسيرته التطورية منذ
نشأته في العصر الحديث، وصولا إلي واقعنا الراهن. وسيتبين من خلال الدراسة المقدمة
هنا مقدار ارتباط الأمور ببعضها، بين الماضي والحاضر، وسيتبين كيف أن الأزمة التي
يواجهها النقد العربي حاليا لها جذورها العميقة التي ترجع إلي ممارسات قديمة، وإلى
إشكاليات منهجية صاحبت "النقد العربي" منذ نشأته وكبرت مع انتقالاته من
مرحلة لأخرى.
وفي هذه
الدراسة أقسم "الممارسة النقدية العربية السابقة" إلي ثلاث مراحل
أساسية، هي: "المرحلة
الإحيائية" [1876م-1920م]، و"المرحلة الرومانسية"
[1920م-1947م]، و" المرحلة الواقعية" [1947م-1981م](*). ومن
الملاحظ أن هذه المراحل الثلاث متداخلة إلى حد كبير، وهو ما يجعل القطع بوضع حد
فاصل تماما بين مرحلة وأخرى في عام محدد غير صائب؛ حيث تظهر إرهاصات المرحلة
التالية في السابقة، وأحيانا تتسرب بعض جوانب السابقة إلى التالية، وأحيانا أخري
تبقي المرحلة السابقة حاضرة بجوار التالية؛ لذا وجب التنويه إلى أن ذكر التواريخ
هنا من قبيل الإعانة على الدراسة، وليس حدا فاصلا تماما بين مرحلتين منتهيتين.
وأول ما أتحدث عنه فيما يخص المرحلة الأولي ــ "المرحلة الإحيائية" [1876م-1920م] ــ بدايات هذه
المرحلة، وذلك لأنه من الملاحظ أن الآثار الأدبية لمنجزات ((محمد علي)) (1805م- 1848م) النهضوية لم تظهر إلا في النصف
الثاني من القرن التاسع عشر؛ لذا كان "الأدب" في النصف الأول منه
امتدادا لما كان عليه من تدهور في عهدي الدولة العثمانية والمملوكية من قبل.
ويتلخص هذا التدهور في العناية الفائقة بالبديع وضروب التكلف اللفظي، وفي اختفاء
الأغراض الشعرية التقليدية، ليحل بدلا منها التشطير والتسديس وحساب الجمل وغيره من
الألعاب اللفظية، التي حولت "الأدب" ــ شعرا ونثرا()ــ إلى ضرب من ضروب
التكلف والتعقيد والإلغاز، وفرغته تماما من الإبداع والابتكار والجمال.
ومن الطبيعي أن يشهد "النقد" في تلك
الفترة حالة من التدهور تتوازي مع حالة موضوعه "الأدب"، لاسيما أن هذه
الحالة نتاج قرون من الجمود والتخلف، أثـَّرت على مجمل الحياة الثقافية والعلمية
في البلاد، وليس على "الأدب" و"النقد" فقط؛ لذا انحصر
"النقد" في دروس الأزهر ومعاهده، وضاقت نظرته إلى "الأدب"،
فلم يعد يراه إلا من خلال منظوري "النحو" و"البلاغة"، وهما
منظوران يجعلان "الأدب" خادما "للنحو" و"البلاغة"،
ولا يجعلان "النحو" و"البلاغة" يُمَثـِّلان "منهجا"
يُبْحَثُ به في جماليات "الأدب" وإمكانياته، كما أن "النقد"
شهد ضيقا في موضوعه الذي اقتصر على تقريظ الكتب وإطراء الأدباء، مع المبالغة
الشديدة في ذلك كله.()
ولم تتغير هذه الصورة إلا مع النصف الثاني من
القرن التاسع عشر، متأثرة في ذلك بمجموعة من العوامل تهيأت أسبابها منذ عهد ((محمد علي)) (1805م- 1848م)، لكنها لم تتمكن من التأثير في
الحياة الثقافية والأدبية إلا مع عهد ((إسماعيل)) (1863م- 1879م)، وذلك لما هو معلوم عن التوجه
العسكري المحض ((لمحمد علي))، ثم ما دخلت فيه
البلاد من جمود وركود في عهدي ((عباس
الأول)) (1849م- 1854م)، و((سعيد)) (1854م- 1863م) ــ مع إهمال الفترة القصيرة التي
تولاها ((إبراهيم)) (1848م) ــ، بينما تـَمَيَّز عهد ((إسماعيل)) بهدوء نسبي، ساعد علي تمكين النهضة الثقافية من
الاستفادة بهذه العوامل، بعدما كانت متوجهة في تأثيرها إلي الجوانب العسكرية
والتطبيقية فقط.()
ويمكن تقسيم العوامل التي ساعدت علي دفع النهضة
الأدبية إلي أربعة محاور تنتظم فيها، وتعطي فكرة أيضا حول تأثيرها علي الحياة
الأدبية والثقافية بعامة، هذه المحاور هي: أولا: الاحتكاك الثقافي بالغرب
منذ الحملة الفرنسية(1798م)، ومرورا بالبعثات العلمية، وهو ما أدي إلي التعرف علي
الثقافة الغربية والإفادة منها في النهضة الأدبية. ثانيا: انتشار التعليم
إلي حد معقول في البلاد، وهو ما وَفـَّر جمهورا تلقى "الأدب"
و"النقد" علي المستوي العام، وساعد في العمل علي تطويرهما وتقدمهما علي
المستوي الخاص. ثالثا: بَعْثُ التراث العربي ونشره باستخدام الطباعة؛ مما
ساهم في التعرف علي "الأدب العربي" في صوره المشرقة، بدلا من الصورة
السيئة السابق الحديث عنها. رابعا: ازدهار الترجمة والتأليف، وشيوعهما من
خلال المجلات التي حلت محل المجلات الأدبية المتخصصة في تلك الفترة، وهو ما أثـَّر
بشكل كبير علي ظهور الرواية، وعلي تحرر الأسلوب من أغلال البديع.()
أما الآلية التي اتبعتها النهضة لدفع
"الأدب" ولتخليصه مما أصيب به من تدهور؛ فهي محاولة التضاد مع مظاهر
الضعف والانهيار الحادثة فيه بنقيضها، كالتخفيف من أسر البديع وقيده، والتقليل من
أهميته، بعدما أصبح جـوهـر الأدب ومـداره، وكذلك محـاولة إعـادة الأغـراض الأدبية
التقليدية لـه ــ كالمدح والهجاء والفخر والغزل ــ بدلا من التشطير والتسديس وحساب
الجمل، أي باختصار: محاولة إعادة الطبع إلي "الأدب" بعدما غلبت عليه
الصنعة والتكلف.
من هؤلاء الأدباء الذين حاولوا ذلك: ((محمود صفوت الساعاتي)) (1241هـ - 1298هـ)، و((عبد الغفار الأخرس العراقي)) (1810م- 1873م)، لكن الدفعة الحقيقية للنهضة
الأدبية ــ علي مستوي الشعر ــ جاءت علي يد: ((محمود سامي البارودي)) (1838م – 1904م)، و((عائشة التيمورية)) (1840م- م1902)، و((إسماعيل صبري)) (1854م – 1923م)، وغيرهم.
وفي مجال النثر قـَدَّمَ ((رفاعة الطهطاوي)) (1801م – 1873م) دفعة كـبيـرة له بترجمـة ((تليماك)) لفنيلون الفـرنسي ــ نـُشـرت ببيروت عام(1867م)
ــ، لكن الملاحظ أن الدفعة الحقيقية للنثر ساهم فيها انتشار المجلات التي اهتمت
بالنواحي الأدبية إلي حد كبير، وهو ما عمل علي تخليص الأسلوب من سطوة
"البديع" و"الزخرف اللفظي"، كما ساعد أيضا علي نشر
"الرواية" وتقبلها بين القراء، ومن الذين لهم فضل في انتشار هذه المجلات
ــ سواء بالتأسيس أو بالكتابة النقدية والإبداعية فيها ــ: ((يعقوب صروف)) (1852م-1927م)، و((إبراهيم اليازجي)) (1847م – 1906م)، و((جرجي زيدان)) (1861م – 1914م)، و((فرح أنطون)) (1861م-1922م)، وغيرهم.
ومما تقدم يُلاحَظ أن النهضة الأدبية التي حدثت
لم يكن للنقد دور ريادي أو جوهري فيها، فهو لم يقم بدوره المطلوب من مراجعة لجوانب
الضعف والتدهور الحادثة في "الأدب"، ومن ثـَمَّ يسهم في محاولة تغييرها،
وإنما ما حدث أن امتدح "النقد" هذه العيوب، وأطري عليها كما تقدم الذكر،
إلي أن جاء النفور منها من "الأدباء" أنفسهم، بعدما أصبح لديهم
"ملكة" ذوقية قادرة علي التمييز الفني، وهي الملكة التي كان للعوامل
السابق الحديث عنها دور كبير في تكوينها، وما يُمَثـِّل أهمية هنا، أن
"النقد" أصبـح مُطـَالـَبَا بالاستجابة لهذا التقدم الحادث في
"الأدب"، وأصبح عليه أن يُعَدِّل من أساليبه وأدواته المتوارثة منذ عهود
الانحطاط السابقة؛ لكي يتلاءم مع المستوي الذي وصل إليه "الأدب" في تلك
الفترة، ومن الجدير بالذكر أن الكثير من هؤلاء "الأدباء" أنفسهم دخلوا
دائرة "النقد"، وكان لهم إسهامهم الخاص فيه أيضا.
وقد تمسك "أدباء" و"نقاد"
تلك الفترة برؤية ثقافية خاصة؛ تتمثل في حرصهم علي التمسك باتجاهين متعاكسين، هما:
"الاتجاه المحافظ" الذي يستلهم مُثـُلـُه من "التراث" في صوره
المشرقة منذ العصر الجاهلي إلي العباسي، وهو ما ظهر انعكاسه علي "الأدب"
في الحرص الشديد علي الفصاحة والجزالة والفخامة والصحة اللغوية من ناحية، وتقليد
"التراث" في صوره وأغراضه وأخيلته وتعبيراته من ناحية أخري. أما الاتجاه
الآخر، فهو: "الاتجاه المُجَدِّد" الذي حاول إدخال أنواع أدبية جديدة لم
تكن معروفة من قبل، وتم التعرف عليها من خلال قراءة الآداب الأوربية، سواء مترجمة
أو في لغاتها الأصلية، كالأدب القصصي والتمثيلي، وكالشعر الملحمي والمسرحي، وأيضا
حاول هذا الاتجاه استلهام روح العصر الحديث ــ لتلك الفترة ــ، عن طريق وصل
"الأدب" بالواقع المعاش، بعدما انفصل عنه لقرون طويلة.()
ومحاولة "أدباء" النهضة
و"نقادها" المحافظة علي التوازن الشديد بين هذين الاتجاهين معا، له
دلالته في التعبير عن الروح التي سادت تلك العصر، وهي الروح التي حاولت التخلص من
تخلف القرون السابقة وجمودها من ناحية، ثم اللحاق بالعالم الغربي المتطور والمتقدم
من ناحية ثانية، مع الرغبة في المحافظة علي "الهوية القومية"، والخوف
عليها من الذوبان خلال هذه العملية، التي أصبحت تفرض نفسها بحكم التطور الملموس
للغرب، الذي استطاع استعمار البلاد وإخضاعها له، من ناحية ثالثة.
وعلى صعيد آخر، هذان الاتجاهان معا يجعلان
إطلاق تسمية "الكلاسية" علي تلك الفترة ــ والتي صارت معتمدة عند كثيرين
ــ غير دقيقة، وهو ما نـَبَّه إليه الدكتور ((شكري عياد)) من قبل ــ عندما حاول تفسير عدم إطلاق أبناء تلك
الفتـرة اسمـا علي أنفسهـم، رغـم معرفتهم بأنهم يحاكون "الكلاسيين
الغربيين" ــ يقول في هذا السياق: ((فإذا
كانت الكلاسية أو المدرسية تعني إتباع القديم، أو سلوك النهج الذي يؤدي إلي
الاعتراف بكتاباتهم وإدراجها ضمن ما يتعلمه التلاميذ في المدارس(...) فماذا يكون
هذا القديم، أو تكون هذه التقاليد الأدبية المعترف بها في التعليم، أهي التقاليد
الشائعة أو المشتركة بين الآداب الغربية فيكونوا في الحقيقة خارجين علي تقاليد
الكتابة العربية، أم هي تقاليد الكتابة العربية وهي لا تعرف هذا القصص أو هذا
التمثيل الذين يحاولون إدخاله إليها)) ().
لذا تبدو تسمية الدكتور ((جابر عصفور)) لنقد تلك الفترة: "بنقد الإحياء"()، أكثر صوابا ودقة عن
تسميته "بالنقد الكلاسي"؛ فتسمية "نقد الإحياء" مُعَبِّرة
تماما عـن حاله في تلك الفتـرة، ومـلائمة لعدم استقرار الأنماط الأدبية المختلفة
إبانها ــ لاسيما الجديد والوافد منها ــ ، وأيضا عاكسة لعدم نضج المعايير
الجمالية التي وضعها "النقد" للأدب ــ وهو ما يجعل تسمية "النهضة"
غير دقيقة
أيضا ــ؛ لذا فإن التسمية الأنسب ــ فيما أري ــ هي: "نقد الإحياء"، وليس
"النقد الكلاسي".
وفيما يخص التاريخ الذي اعتمدت عليه في تحديد
بداية هذه المرحلة؛ فهو تاريخ أقـدم استعمـال معـروف لمصطلح
"الانتقـاد"، وهو المصطلح الـذي شـاع في تلك الفترة كبديل لمصطلح
"النقد" كما نعرفه اليوم، أو كما عرفه أجدادنا العرب من قبل، واستخدام
مصطلح "الانتقاد" بهذه الصورة له دلالته علي مقدار بُعْدِ
"النقد" في تلك المرحلة، عن "النقد" كما كان في التراث العربي
من قبل، وله دلالته أيضا فيما يوحي به من معاني التصيُّد والتسقـُّط للأخطاء في
العمل الأدبي. وأقدم استعمال لهذا المصطلح ــ فيما يذكر الدكتور ((علي شلش))()ــ يرجع إلي عام
(1876م)، حين ورد في عنوان كتاب صغير هو: ((ارتياد السحر في انتقاد الشعر)) ((لمحمد
سعيد))، وهو الكتاب الذي ظهر
منجما بمجلة ((روضة المدارس)) عام (1876م)، ولا يُعْرَف استخدام لهذا المصطلح
قبل ذلك، خاصة مع حالة التدهور التي كانت حادثة في النصف الأول من القرن التاسع
عشر من قبل.
لكن مما يُحْسَب لهذه التسمية ــ
"الانتقاد" ــ أنها ظهرت في تلك الفترة لتـُمَيِّز بين نوعين من
"النقد"، الأول ما شاع عنه اسم "التقريظ"، وهو المنوط به
تعريف القراء بالأعمال الأدبية، عن طريق التنويه بالكتب وبالأدباء، وهو يشبه ما
اقتصر عليه "النقد" من قبل في موضوعه كما تقدم، والآخر ما يَبْحَث في
شئون "الأدب" وأحواله ووسائل الإجادة فيه، سواء علي مستوي التنظير أو علي
مستوي التطبيق كما سيجيء، وهو ما يعني أن "النقد" بدأ يكتسب حساسية
خاصة، تمكن بها من الوعي بذاته ــ إلي حد ما ــ، وكذلك الوعي بدوره الذي يجب عليه
القيام به تجاه "الأدب".
ومما يُحْسَب للنقد أيضا في تلك الفترة ما
لاحظه الدكتور ((جابر عصفور)) من محاولة التمييز بين "الشعر"
و"النظم"، علي أساس خاصية نوعية يختص بها الأول دون الآخر هي
"الخيال"()، وعلي الرغم من أن
التمييز بين "الشعر" و"النظم" يعد شيئا بدهيا لنا الآن؛ إلا
أن ذلك يُمَثـِّل نقلة كبيرة للنقد في تلك الفترة، خاصة عند مقابلة ذلك بما كان
سائدا من تدهور في النصف الأول من القرن التاسع عشر كما تقدم.
لكن ما وَضَعَه "نقاد الإحياء" من
شروط يدور فيها "الخيال" ــ طبقا لتصوراتهم ــ يبدو مثيرا للدهشة؛ فقد
كان لا يُسْمَح لهذا "الخيال" بالانطلاق أو التحرر من أسْر الواقع، وإنما
كان عليه أن يراعي قوانين الاحتمال وحدود المنطق، وكان عليه أن يستمد مفرداته من المعطيات
والمكونات الواقعية؛ وذلك لكي يحقق "الخيال" تأثيره ودوره في المتلقي()، ومن الواضح أن
مَرَدَّ هذا التضييق علي "الخيال" تلك النظرة "الاجتماعية"
و"الأخلاقية" التي التزم بها نقاد وأدباء تلك الفترة علي حد سواء، بحيث
يبدو الغرض الأساسي من "الأدب" عندهم ما يحمله من رسالة تعليمية
وأخلاقية تجاه الجمهور، أنظر كيف تبدو هذه النظرة واضحة في تعريف ((محمد عبده)) (1849م- 1905م) للكتب الأدبية بأنها: ((هي ما يبحث فيها عن تنوير
الأفكار، وتهذيب الأخلاق، من هذا القبيل كتب التاريخ، وكتب الأخلاق العقلية،
وكتب الرومانيات [يقصد الروايات]، وهي المخترعة لغرض جليل كتعليم الأدب والحث
علي الفضائل، والتنفير من الرذائل، ككتاب كليلة ودمنة، وفاكهة الخلفاء(...)))()[التأكيد من عندي]، ويبدو
واضحا تماما في هذا التعريف ما يعتقده نقاد الأحياء حول "وظيفة الأدب"،
و"دوره" تجاه المجتمع، وهي النظرة التي التزم بها جميع "نقاد"
و"أدباء" تلك الفترة تجاه "الأدب".
ومن هذا المنظور؛ فإن في حالة التعارض بين
"الأدب" و"دوره الاجتماعي" و"الخلقي" المنوط به ــ
كأن يخلو من قيمة تعليمية أو أخلاقية يوجهها، أو كأن يتعارض مع حقيقة علمية ــ؛
يكون جزائه النبذ والطرد وعدم الاعتداد به، وعلي هذا الأساس تم طرد الأدب الشعبي
من دائرة "الأدب"، وسمي ((محمد
عبده)) كتبه: "كتب الأكاذيب الصرفة"، وعرفها
بأنها: ((ما يذكر فيها تاريخ
أقوام علي غير الواقع، وتارة تكون بعبارة سخيفة مخلة بقوانين اللغة، ومن هذا
القبيل كتب أبو زيد، وعنتر عبس (...)))().
والأدب
الشعبي يبدو من هذه الوجهة ــ لعدم احتوائه على قيمة يوجهها إلي الجمهور،
ولاحتوائه على معلومات مغلوطة ــ معارضا لمنظومة الأخلاق والتعليم التي صاغها
"النقد" للأدب في تلك الفترة، وهو ما أدي إلي طرده من دائرة "الأدب
المحترم"، وعدم الاعتراف به في "النظرية النقدية"، علي الرغم مما
يحتويه من قيمة أدبية، التفت إليها "النقد" فيما بعد.
و"الأدب" في ظل رسالته الأخلاقية
والاجتماعية هذه، يصنع لنفسه آلية تمكنه من أداء دوره تجاه الجمهور. فإذا كان
الجمهور يبدو رافضا تلقي هذه الرسالة بشكل مباشر، أو يبدو غير قادر علي استساغة ما
في هذه الرسالة "الأخلاقية" و"الاجتماعية" من
"حقائق"؛ فإن "الأدب" يستعين في أداء دوره
"بالخيال"؛ لكي يعمل من خلاله علي تمرير رسالته دون إشعار المتلقين
بالمرارة الكامنة فيها(). وذلك فهم ضيق لوظيفة
كل من "الخيال" و"الأدب"؛ ولعل هذا الفهم الضيق هو الذي أدى
إلي عدم انطلاق "الأدب" في فترة "الإحياء" إلي أفق رحبة فسيحة
نحو "الجمالية" و"الإبداعية"، مثل تلك التي وصل إليها
"الأدب" الذي حاولوا محاكاته، لاسيما "الأدب الغربي" في
مسرحياته ورواياته وملاحمه الكبرى.
من ناحية أخري، اهتمت "النظرية النقدية"
لتلك الفترة "بالشعر"، وأهملت "الرواية"، وذلك لاعتبارها
"الشعر" الفن الأدبي الأول وربما الأوحد، متأثرة في ذلك بما يلقاه
"الشعر" من اهتمام بالغ في "التراث" الذي حاولوا إحياءه
ومحاكاته في نهضتهم الحديثة()؛ لذا نظروا إلي
"الرواية" علي أنها: ((وليد
غير شرعي في هذا المجتمع)) ــ بتعبير الدكتور ((بدر)) ــ، خاصة مع عدم
الاعتراف بالأدب الشعبي الحافل بالقصص والخيال، والذي بدونه يبدو
"التراث" خاليا من المعطيات القصصية الخصبة، وجدير بالذكر أن إهمال
"الرواية" سوف يستمر حتى المرحلة الثانية أيضا().
لكن برغم هذا الإهمال النقدي، كانت
"الرواية" تـَلقي رواجا ضخما، وكانت تنتشر بشكل واسع في البلاد، وهي في
انتشارها هذا لم تقتصر علي مكان دون مكان، بل امتد تأليفها ونشرها إلي المدن
الصغيرة أيضا، مثل: طنطا ــ والمنصورة ــ وصيدا ــ وطرابلس ــ وحلب ــ والمنيا ــ
وشبين الكوم ــ والسنطة، وغير ذلك، مما يجوز معه وصف حالة رواجها هذه
"بالهوس" كما يصف الدكتور ((علي
شلش))()، وهذا
"الهوس" كان يَفرِض للرواية
وضعا أدبيا يُجبـِر "النقد" ــ غير المُعتـَرِف بها ــ علي
الاستجابة لها، لكن هذه الاستجابة كانت تواجه صعوبة خاصة، نابعة من عدم وجود
تقاليد تراثية خاصة بالرواية في تراثنا الأدبي والنقدي، مما جعل علي عاتق
"النقاد" مهمة إرساء تقاليد أدبية ونقدية خاصة لجنس أدبي غربي، ليس له
أي رصيد نقدي سابق في "الممارسة النقدية العربية"، وقد حاولوا التغلب
علي ذلك بالاستعانة بالمقاييس "البلاغية" و"النقدية" التي
أقرها "النقاد" و"البلغاء" القدماء "للشعر"؛ ليتم
تطبيقها علي جنس آخر مغاير هو "الرواية"، مما أدي إلي الاهتمام بالكلمة
المفردة في "الرواية"، وإهمال ما بها من صياغات أخري "كالحدث"
و"الشخصية" و"الزمان" و"المكان"، وغير ذلك().
وفيما يخص تعريف الرواية عند
"الإحيائيين"؛ فبعدما استعرض الدكتور ((علي شلش)) التعريفات المختلفة لنقاد تلك الفترة "للرواية"،
خلـُص إلي أن "الرواية" كانت تتحدد في تلك الفترة علي أنها: ((واقعة حقيقية أو
خيالية تروي عن شخص، أو مجموعة من الأشخاص، بهدف التسلية أو الموعظة)) ()، ويَذكـُر أيضا أنه
برغم عدم التفريق بين "الرواية" و"القصة" بشكل قاطع في تلك
الفترة، إلا أنه كان هناك تفريق ضمني بينهما، يعتمد علي "الحجم"،
المتمثل في طول الصفحات بصفة خاصة، دون أن يتم الاعتماد علي "الأحداث"
أو "الشخصيات" أو "الزمن" في هذه التفرقة، كما حدث فيما بعد().
ويذكر
((شلش)) أيضا ــ فيما يخص التقييم النقدي للرواية ــ، أن
"الرواية" كانت تـُصَنـَّف إلي قسمين: "ضارة"
و"نافعة"، وتـُصَنـَّف إلي ذلك عن طريق ما تحتويه من قيم ومبادئ
أخلاقية، دون النظر إلي مستواها الفني؛ فتصبح "الرواية":
"نافعة" و"جيدة" إذا كثرت فيها المبادئ والأخلاق، وفي المقابل
تصبح "الرواية": "ضارة" و"رديئة"؛ إذا احتوت علي
جوانب غرامية فجة، أو وصف عميق للنواحي الغزلية()، ومنبع ذلك ما يحمله
"الإحيائيون" للأدب من وظائف تهذيبية وأخلاقية كما تقدم.
وفي هذا الإطار الأخلاقي الصارم كان علي الروائي
أن يُنشِأ روايته، وعليه أن يجعل منها مُشـَوِّقـَة وجذابة أيضا؛ لكي تدفع القارئ
إلي قراءتها حتى نهايتها؛ ولكي يتحقق ذلك قدم ((فرح أنطون)) (1861م-1922م) مجموعة من النصائح للروائي، عليه
أن يستعين بها في إنشاء رواياته، وهذه المجموعة من النصائح تـُعَدُُّ من أخصب
الاستجابات النقدية النظرية التي ظهرت للرواية في تلك الفترة؛ لذا سوف أعرضها كما
نقلها الدكتور ((شلش)) ــ علي الرغم من طولها ــ لأهميتها.
تتضمن هذه الوصفة ستة عناصر علي الكاتب
مراعاتها، هذه العناصر هي: ((أولا
ــ قوة الاختراع: والمراد بها أن تكون مخيلة الكاتب قادرة علي اختراع حوادث
وأخبار تجعل في الرواية فكاهة ولذة. وبهذه القوة تنشأ في الرواية المشاهد والمواقف
الكبرى التي تحتك فيها العواطف والأميال والمبادئ احتكاكا شديدا يستأسر
لب القارئ ... إلا أنه يجب أن لا تتجاوز هذه القوة حد المعقول المقبول.
ثانيا-
قوة الحركة:
التي تجعل الحوادث متحركة بحيث لا يسأم القارئ القراءة، ومنبئة عن أخلاق الشخصيات
أو طبائعها.
ثالثا-
وحدة السياق وتنوع الموضوع: والمراد بوحدة السياق رسم طريق للرواية تبتدئ
في أولها وتنتهي في آخرها، دون أن تخرج الرواية عنها في
أثناء تقلباتها ... والمراد بتنوع الموضوع جعل مواضيع الرواية التي تتفرع من ذلك
السياق متنوعة متفرعة، لاجتناب ملل القارئ أولا، واستيفاء البحث في أخلاق أشخاص
الرواية ثانيا.
رابعا-
قوة البسيكولوجيا والسسيولوجيا: ويصح أن
يقال إن هذه القوة أهم القوات الضرورية للرواية. ولما كانت مواضيع الرواية
تشمل جميع الحوادث والحالات التي تطرأ علي أشخاصها، وعلي الوسط الذي يعيشون فيه
كانت الرواية محتاجة إلي أكثر أصناف العلوم. فهي تحتاج إلي علم الطبيعة لكي تـُبني
آراؤها ومبادئها وأخلاق أشخاصها علي دعامة علمية، أي علي النواميس
الطبيعية، وإلا كانت نسيج أوهام وخرافات. وتحتاج إلي علم تقويم البلدان (الجوغرافيا)
لمعرفة البلاد التي يكتب عنها، وطبائع أهلها وهوائها، وتحتاج إلي علم التاريخ
خصوصا إذا كانت تاريخية. وقد تحتاج إلي سائر العلوم إذا كان لمواضيعها اتصال بها.
ولكنها إذا احتاجت إلي جميع هذه العلوم أحيانا، وأمكنها الاستغناء عنها جميعا
أحيانا فهناك علمان لا يمكنها أن تستغني عنهما أصلا، وهما علم البسيكولوجيا
وعلم السسيولوجيا.
أما علم البسيكولوجيا أو ((علم النفس والأخلاق)) فهو قسمان: مصنوع ومطبوع، أي اكتسابي وغريزي.
والأول يستفيده الكاتب من مصدرين، أحدهما كتب البسيكولوجيا، والآخر مراقبة
الطبيعة والبشر لملاحظة أخلاقهم وأحوالهم في جميع أطوارهم. ولا يتم نفع الأخير إلا
إذا تكونت في نفس الدارس ــ الكاتب ــ قوة غريزية يقدر بها علي استنباط مكنونات
النفوس، وتصوير حالاتها، دون أن تدري هي بها. وهي هبة من الطبيعة لتلك النفس وإن
كان بعض علماء الأخلاق يقول إن الدرس والاختبار قد يؤديان إليها.
أما علم السسيولوجيا، أو الاجتماع البشري،
فترجع ضرورته لمؤلف الرواية إلي سببين، أحدهما أن جميع الروايات المهمة في هذا
العصر أصبح غرضها (اجتماعيا) والآخر أن الروايات من أهم وسائل ترقية المجتمعات
التي يسعي هذا العلم إلي بحثها وتحصيلها.
خامسا-
درس الفن الروائي: بمطالعة روايات أكابر المؤلفين وكتابات مشاهير نقاد
الرواية.
سادسا-
عاطفة الجمال: ويدخل في هذا أن تكون الرواية جميلة الموضوع، جميلة
السبك. ويتحقق جمال الموضوع بمراعاة الصفات الخمس السابقة. ولكن جمال السبك لا
يتحقق إلا باللفظ العذب والمعني الطليّ والروح الجليّ، بعيد عن الجفاف والجمود في
الإنشاء))()[ما تحته خط بصورته نفسها في النص]، وهذه
النصائح تعكس بوضوح رؤية ومطالب "النقد الإحيائي" من كل من
"الرواية" و"الروائي" علي حد سواء.
وفي إطار الحديث عن أنضج الممارسات النقدية
لتلك المرحلة؛ يجب الحديث عن: الشيخ ((حسين
المرصفي)) (1815م-1890م)()؛ وذلك لما له من تأثير نقدي كبير في
مرحلته، ولما امتاز به من وعي نقدي، يظهر واضحا في كتابه الشهير: ((الوسيلة الأدبية
للعلوم العربية))، وهو الكتاب الذي
يصفه الدكتور ((محمد مندور)) بأنه: ((شديد الشبه بكتب الأمالي العربية
القديمة كأمالي أبي علي القالي، وأمالي المبرد وغيرهما))()، وذلك لكي يتسق مع
موضوعه، الذي هو تعليم إنشاء "الشعر" و"النثر"، فهو أساسا
محاضرات الشيخ في دار العلوم لطلبته.
ويعلق الدكتور ((طه حسين)) علي هذا الكتاب، وعلي صنيع ((المرصفي)) فيه؛ فيقول: ((مذهب الأستاذ المرصفي نافع النفع كله
إذا أريد تكوين ملكة في الكتابة وتأليف الكلام وتقوية الطلاب في النقد وحسن الفهم
لأثار العرب))()؛ وهذا الكتاب من
النوع الشامل، الذي يجمع بداخله متفرقات من كل علوم العربية، كعلوم:
"النحو"، و"الصرف"، و"العروض"،
و"البيان"، و"البديع"، و"المعانٍ"؛ بهدف تهيئة
معرفة كاملة للمتعلمين تعينهم في تأليف وإنشاء "الأدب".
والكتاب يسير في اتفاق ــ من حيث "نظريته
النقدية" ــ إن أمكن القول ــ مع ما تقدم ذكره من نظرة "أخلاقية"
و"اجتماعية"، وكذلك أيضا فيما يخص وحدة البيت واستقلاله، وقيامه بذاته
منفصلا، دون حاجته إلي غيره()، وبالإضافة إلي ذلك،
فإن ((المرصفي)) يرسم فيه لمن أراد إنشاء "الشعر"
منهجا، يقوم علي حفظ أكبر قدر ممكن من الشعر الجيد، كشعر ابن أبي ربيعة، والبحتري،
وجرير، والرضي، وغيرهم، ثم التحلل من هذا الشعر المحفوظ في الذاكرة عند إنشاء
الشعر الجديد الخاص بالشاعر، لكي يخرج المُنتـَج الجديد متأثرا بجودة المحفوظ من
"الشعر" في الذاكرة، وخالصا في أسلوبه لمؤلفه، بعيدا عن تبعية
"الشعر" للأسلوب القديم المحفوظ ().
أما علي الصعيد التطبيقي؛ فإن الكتاب يسير علي
نمط "الموازنات" بين الأدباء المختلفين ــ قدماء ومحدثين ــ، لكي يتبين
موقع "الأديب المحدث" من "الأديب القديم"، ولكي يتبين جودة
"الأدب" بمقارنته بنموذج أدبي تراثي مشهود له بالجودة، وقد لاحظ الدكتور
((عز الدين الأمين)) أن ((المرصفي)) في موازناته هذه يتبع النهج التالي: (1-) يوجه
بعض "النقد" من غير تعليل، معتمدا في ذلك علي ذاتيته، وعلي رأيه الذوقي
الخالص. (2-) يتخذ الشعر العربي القديم بسننه المألوفة مثلا أعلي للشعر، ولا يحبذ
الخروج عن هذه السنن، ويرفض أي تغيير في هذه السنن. (3-) يعتمد علي "النقد
اللغوي" فيناقش صحة الكلمات الواردة في العمل الأدبي من حيث الاستعمال
اللغوي، ويشرح ويفسر معاني بعض الكلمات التي تبدو مبهمة. (4-) يؤاخذ الأديب علي
السرقة، خاصة إذا ما كان المعني السابق أكمل وضوحا، وأصح معني. (5-) لا يستحسن
البيت الذي يكثر لفظه ويقل معناه، وهي نظرة تري بانقسام العمل الأدبي إلي معني
ولفظ، وشكل ومضمون. (6-) يري أن الشاعر لا يكون دائما بمنزلة واحدة في شعره، فقد
يجود في بعض أدبه، وقد يسف في موطن آخر.()
وفي ذلك
كله يبدو ((المرصفي)) متوافقا تماما مع الرؤية العامة للنقد الإحيائي،
لكن ما يُعَدُّ غير متوافق مع ما تقدم، ما تحدث به ((المرصفي)) عن قصيدة "الأمير" لـ ((البارودي)) (1838م-1904م)، إذ امتدح ((المرصفي)) اتساق أبياتها وانتظامها معا، بشكل لا يسمح معه
بوضع بيت بين بيتين، أو بتغيير ترتيب بيت من أبيات القصيدة بالتقديم أو التأخير،
وهو ما يبدو مخالفا لما أبداه من رأي في وحدة البيت وقيامه كوحدة مستقلة بذاته،
لكن النظرة المدققة إلي كلام ((المرصفي)) تكشف عن أنه لم يَعْدِل عن رأيه السابق، فهو
يقول: ((أنظر هداك الله لأبيات
هذه القصيدة فأفردها بيتا بيتا تجد ظروف
جواهر أفردت كل جوهرة لنفاستها بظرف، ثم اجمعها وانظر جمال
السياق وحسن النسق، فإنك لا تجد بيتا يصح أن يقدم أو يؤخر، ولا بيتين
يمكن أن يكون بينهما ثالث، وأكلك إلي سلامة ذوقك وعلو همتك(...)))()[التأكيد من عندي].
وذلك
يدل علي أنه رأي في أبيات ((البارودي)) إلي جانب استقلال البيت وقيامه بذاته كوحدة
متكاملة، مزية أخري، هي اتساق هذه الأبيات المستقلة معا، بما لا يسمح معه بتعالق
بيت بآخر، علي غير الترتيب الذي جاء به ((البارودي))، فيكون المقصود كمال
البيت إذا ما فـُصِل وحده مستقلا عن باقي القصيدة، وكمال ترتيب الأبيات إذا ما
وضعت معا في القصيدة، فلا تقبل ترتيبا غير هذا الترتيب الذي جاءت عليه قصيدة ((البارودي))، وهذا التفسير يبدو
موضحا لجانب آخر من وجهة نظر ((المرصفي))، وهو جانب ضرورة
مراعاة تعالق الأبيات ببعضها والعمل علي حسن تنسيقها معا، مع وجوب مراعاة استقلال
البيت المفرد، وقيامه في أداء معناه بذاته أيضا()، وهو ما سوف يشار إليه ثانية عند
الحديث عن "وحدة القصيدة" في المرحلة التالية.
ومما تقدم، يلاحظ علي "النقد" في تلك
الفترة ، أنه في مقابل إلزامه "الأدب" بهدف تعليمي وأخلاقي يجب أن
يتضمنه؛ فإن "النقاد" أنفسهم التزموا بجانب تعليمي يقومون به تجاه
"الأدباء" أيضا، أي أنهم حرصوا علي أن يكون "النقد" نفسه
مُصطـَبـِغا بصبغة تعليمية تـُعِين "الأديب" علي تأليف
"الأدب" ــ كما رأينا مثلا في "الوسيلة الأدبية" سابقا ــ،
وكذلك أيضا حرصوا علي أن يكشف نقدهم التطبيقي للأديب عن "الأخطاء" التي
وقع فيها "عمله الأدبي"، وهي أخطاء من نوع "تاريخي" أو
"معجمي" أو "بلاغي" غالبا، ومثال ذلك ما وجهه ((جرجي زيدان)) (1861م-1914م)، و((إبراهيم اليازجي)) (1847م-1906م) لرواية ((شوقي)) (1869م-1932م): ((عذراء الهند أو تمدن الفراعنة)) (1897م)، من نقد رَكـَّز فيه ((زيدان)) علي عدم "معقولية" العقدة، لصغر المدة
التي اجتمع فيها بطلا القصة معا وهما صغار، وكذلك رَكـَّز ((اليازجي)) علي "المآخذ اللغوية" المتضمنة في
"الرواية"، واتفق الاثنان علي شجب ما بالقصة من خوارق وعجائب غريبة
مخالفة لما هو صحيح في الواقع، ولما هو مألوف في الحقيقة().
وعند النظر إلي النتاج الأدبي الخاص بتلك
المرحلة ــ كنتاج ((البارودي)) و((شوقي)) مثلا ــ، وكذلك عند النظر إلي الحصيلة النقدية
الموازية لهذه الأعمال، يتبين أن "نقد الإحياء" لم يَنـْفـُذ إلي القيم
الجمالية المتوفرة في "أدب" تلك الفترة، بل إن مفهوم "الجمال
الأدبي" يبدو غائبا تماما عن "النقد الإحيائي"؛ وذلك لأن
"النقد" واقع أساسا في أسر التناول "المعجمي"
و"الأخلاقي" و"المنطقي" للأدب، دون سواه من جوانب أخري، وتلك
هي أهم سمات "النقد" في تلك الفترة.